للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حتى لا يقع فيها شيء، كما سئل بعضهم عن مسألة من الفرائض فكتب في الفتوى: تقسم على فرائض الله سبحانه وتعالى.

لا شك أن مثل هؤلاء - وهم من عَوَامِّ المُحَدِّثِينَ - لا يستسيغون بل لا يفهمون دقة أبي حنيفة في الاستنباط، وغوصه العميق في استخراج الأحكام من النصوص، وَمِنْ ثَمَّ فَهُمْ أسرع الناس إلى إساءة الظن به. وَالصَدِّ عنه، وإشاعة قالة السوء عن تدينه، ورميه بالاستخفاف بالأحاديث.

٦ - لقد كان لأبي حنيفة أقران، وفي عصره علماء، ومن طبيعة التنافس في بني الإنسان أن تضيق صدورهم بمن يمتاز عليهم بفهم، أو يزيد عنهم في شُهْرَةٍ أو يوضع له القبول عند الناس أكثر منهم، تلك طبيعة قَلَّ أن يخلو منها إنسان حتى العلماء إلا من رفع الله نفسه عن الصَغَارِ. وملأ قلبه بالحكمة وأورثه هُدَى النَبِيِّينَ وطمأنينة الصِدِّيقِينَ.

وقد عقد ابن عبد البر في " جامع بيان العلم "، فَصْلاً خَاصًّا لتنافس العلماء وما ينتجه ذلك من أقوال بعضهم. ذكر في أوله قَوْلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: «اسْتَمِعُوا عِلْمَ الْعُلَمَاءِ وَلاَ تُصَدِّقُوا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمْ أَشَدُّ تَغَايُرًا مِنَ التِّيُوسِ فِي [زُرُوبِهَا]» (١). وتعرض لمُطَرِّفِ مِمَّا رَمَى بِهِ العُلَمَاءُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، من مثل قول مالك في محمد بن إسحاق، وقول يحيى بن معين في الشافعي، وقول حَمَّادٍ في أهل مكة، وقول الزُّهْرِيِّ كذلك في أهل مكة.

ولقد بلغ أبو حنيفة من نباهة الشأن وعلو المرتبة وذيوع الصيت ما جعل بعض أقرانه يتحدثون عنه في المجالس بما لا يصح، وينقلون إلى الخليفة عنه ما لم يقع، حتى لقد قال أبوحنيفة في أحد هؤلاء، وهو عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة في عصره: «إِنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى لَيَسْتَحِلُّ مِنِّي مَا لاَ أَسْتَحِلُّهُ مِنْ حَيَوَانٍ» (٢).


(١) " جامع بيان العلم ": ٢/ ١٥١.
(٢) " مناقب أبي حنيفة " للموفق المكي.