للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بأعيانهم، ونحن وإن كنا نذهب إلى ما ذهب إليه المَلِكُ المُعَظَّمْ عِيسَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ الأَيُّوبِي (١) وغيره من كَذِبِ الروايات المنسوبة إلى الأئمة في الطعن بأبي حنيفة. إلا أننا لا نستغرب أن يكون قد صح عنهم شيء من هذا للسبب الذي ذكرناه آنِفاً وضربنا له مِثَالاً من موقف الأوزاعي قبل أن يجتمع بأبي حنيفة، وموقفه بعد الاجتماع به، فهذا عندي هو المَحْمَلُ الصحيح، لما قد يصح من أخبار في ذَمِّ أبي حنيفة من بعض علماء عصره، وأنا لا أشك في أن آخر الأمرين منهم كان تحسين الظن به والثناء عليه، والإشادة بفضله، بعد أن كثرت رحلاته إلى المدينة ومكة والبصرة وبغداد، حتى ذكروا أنه حَجَّ خمساً وخمسين حَجَّةً، ولا شك أنه كان في جميعها يجتمع بالعلماء ويدارسهم وَيُبْدِي لهم ما عنده ويأخذ ما عندهم، ولهذا أثره بلا شك في فهمهم لطريقة الإمام في الاجتهاد واطلاعهم على حقيقة عذره فيما ترك من أخبار وأحاديث، فليس غريباً بعد ذلك أن تتواتر شهاداتهم له بالفقه واعترافاتهم باستقامته على المَحَجَّةِ التى سار عليها أهل العلم من قبله.

ومن ذلك ما أخرجه القاضي عياض في " المدارك " من أن أبا حنيفة ومالكاً اجتمعا ذات يوم في المدينة، ثم خرج مالك وهو يتصبب عرقاً، فقال له الليث بن سعد: «أَرَاكَ تَعْرَقُ؟» قال مالك: «عَرَقْتُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِنَّهُ لَفَقِيهٌ يَا مِصْرِيُّ». وقد صح عن مالك أنه كان يطالع كتب أبي حنيفة - أي كتب أصحابه عنه - حتى جمع عنده من مسائله نحو ستين ألف مسألة، كما نقل ذلك عنه ابن أبي العوام السعدي، وأبو عبد الله بن علي الصيمري، وَالمُوَّفَّقْ الخَوَارِزْمِيُّ وغيرهم (٢).

وقد اعترف أصحاب مالك وكبار المؤلفين في مذهبه بثناء مالك على أبي حنيفة وأجابوا عما نقل عنه من ذَمِّهِ وقدحه أجوبة مختلفة، فالإمام أبو جعفر الداودي صلحب " النامي على الموطأ " يعتذر بأن مالكاً قال ذلك في حالة غضب، وقد يقول العالم حين يضيق صدره ما يستغفر اللهَ منه بعد ذلك.


(١) في كتابه " السهم المصيب في كبد الخطيب ".
(٢) " تأنيب الخطيب " للكوثري: ص ٣.