للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أما الحافظ ابن عبد البر، فيرى بأن روايات الطعن واردة عن طريق أصحاب الحديث من تلاميذ مالك، أما أصحاب الفقه منهم فلا يثبتون منها شيئاً.

على أنه قد نفى أبو الوليد الباجي في " شرحه على الموطأ " نسبة هذه الأقوال إلى الإمام مالك وقال: «لما يتكلم مالك في الفقهاء أصلاً وإنما تكلم في بعض الرُواة من جهة الضبط» واستدل لذلك بما بلغ من إجلال مالك لعبد الله بن المبارك، وقد كان من أخص أصحاب أبي حنيفة (*).

أما الإمام الشافعي، فلا نشك في كذب ما نُقِلَ عنه في ذَمِّ أبي حنيفة، لأنه لم يدركه، وقد أدرك أصحابه وخاصة محمد بن الحسن، واطلع على فقهه منه واعترف بأنه غادر بغداد، وقد حمل من علمه وَقْرَ بَعِيرٍ، فلا يعقل أن يذكر أبا حنيفة بسوء، وهو الذي قال قولته المشهورة عنه: «النَّاسُ عِيَالٌ فِي الفِقْهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ».

وأما الإمام أحمد فهو أيضاًً لم يدرك أبا حنيفة، وإنما أدرك أبا يوسف، وحضر حلقته في أول طلبه للعلم حتى روي عنه قوله: «كَتَبْتُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلاَثَ قَمَاطِرَ فِي ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ» (١) ونظر في كتب محمد بن الحسن حتى إنه سئل من أين لك هذه الأجوبة الدقيقة؟ فقال: «مِنْ كُتُبِ مُحَمَّدٍ بْنِ الحَسَنِ» (٢).

نعم أنا لا أستغرب أن يُؤْثَرَ عنه شيء في مسلك أبي حنيفة الفقهي لا في شخصه، فقد كان الرجلان متنازعي المشرب في مدى الأخذ بِالسُنَّةِ، رغم اتفاقهما في مبدأ الأخذ بها، لقد كان أحمد يقول: «ضَعِيفُ الحَدِيثِ عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ رَأْىِ الرِّجَالِ» (**) بينما كان أبو حنيفة يَتَشَدَّدُ في صحة الحديث ولا يقبل إلا ما فَشَا في أيدي الثقات. ومثل هذا الاختلاف لايعتبر طَعْنًا، وَلِكُلٍّ وِجْهَةً هُوَ مُوَلِّيهَا.

نَتَائِجُ هَذِهِ الضَجَّةِ:

تلك الحقائق التي ذكرنا لك من أسباب الضَجَّةِ الكُبْرَى حول أبي حنيفة في عصره، أحاطت مركز أبي حنيفة بالعواصف من كل جهة، ونسبت إليه آراء ما قالها،


(١) " حسن التقاضي في سيرة أبي يوسف القاضي ": ص ٢٨.
(٢) " تأنيب الخطيب " للشيخ محمد زاهد الكوثري: ص ١٨٠.