للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مُجْتَمِعَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ؟» قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ سُفْيَانُ: «كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «البَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» "؟» قَالَ أَبُوْ حَنِيفَةَ: «أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَا فِي سِجْنٍ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَا فِي سَفَرٍ؟ كَيْفَ يَفْتَرِقَانِ؟». اهـ.

فأنت ترى أن أبا حنيفة لَمْ يَرُدَّ الحديث، ولكنه فهم من التفرق، تفرق الأقوال لا الأجسام، مُرَاعَاةً للمقصود من العقود، وللحكمة من هذه الرخصة تشمل كثيرين، كالمسافرين في سفينة واحدة أو في سفر واحد، أو الموجودين في سجن واحد، فهؤلاء قد يظلون معاً أياماً وشهوراً، فهل نقول: إنهما ما داما مجتمعين في مكان واحد فالبيع لم يتم، ولكل واحد منهما الخيار في فسخه متى شاء؟ وحمل التفرق الوارد على الأقوال جائز ووارد في القرآن وَالسُنَّةُِ، مثل قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (١) ومثل قوله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ ... » إلخ. فالذي لا يلاحظ دقة نظر الإمام في هذا الاستنباط ويسمع بأن أْبا حنيفة يُفْتِي بأن المتبايعين متى أوجبا العقد لا خيار لهما ولو كانا في مجلس واحد، يحكم لأول وهلة بأن أبا حنيفة خالف الحديث، وليس الأمر كذلك.

٣ - وإليك مثلاً مِمَّا أورده ابن أبي شيبة على أبي حنيفة «أخرج ابن أبي شيبة بسنده إلى محمد بن النعمان بن بشير، أن أباه النعمان نَحَلَهُ غُلاَماً، وَأَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليشهده، فقال: " أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا؟ " قَالَ:" لاَ "، قَالَ: " فَارْدُدْهُ ". ثم أورد لهذا الحديث طريقين آخرين بألفاظ مختلفة، وَقَالَ في آخرها: وذكر أن أبا حنيفة قَالَ: " لاَ بَأْسَ بِهِ "».

وجوابه كما في " النكت الطريفة " لِلْعَلاَّمَةِ الكَوْثَرِي: «اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثٍ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي النُّحْلِ بِحَيْثُ وَسَّعَتْ عَلَى أَئِمَّةِ الفِقْهِ نِطَاقَ الاجْتِهَادِ، فَرَأَىَ جُمْهُورُهُمْ أَنَّ الأَمْرَ بِالتَّسْوِيَةِ لِلْنَّدْبِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، فَأَجَازُوا أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ بَنِيهِ دُونَ بَعْضٍ بِالنُّحْلَةِ وَالعَطِيَّةِ عَلَىَ كَرَاهِيَةٍ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَالتَّسْوِيَةُ أَحَبُّ إِلَى جَمِيعِهِمْ، وَيَرَى بَعْضُهُمْ وُجُوبَ


(١) [سورة آل عمران، الآية: ١٠٣].