للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حين صمم على قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، فلا يرى عمر قتالهم أخذاً بقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى» (١)، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٌ: " أَلَيْسَ يَقُولُ الرَّسُولُ: «إِلاَّ بِحَقِّهَا»؟ وَمِنْ حَقِّهَا الزَّكَاةُ "، هذا مع أن عمر كان أول من بادر إلى مبايعة أبي بكر يوم السقيفة معترفاً له بالفضل والأولوية، ومع ذلك فلم يمنعه حبه وتقديره له من أن يجادله في أمر يرى أنه الحق ويرى أبو بكر خلافة.

وهذا عَلِيٌّ يخالف عمر في أمره برجم الزانية الحُبْلَى وينكر عليه بقوله: «لَئِنْ جَعَلَ اللهُ لَكَ عَلَيْهَا سَبِيلاً فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلاً» فيرجع عمر ويقول: «لَوْلاَ عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ».

وهذا أبو سعيد ينكر على مروان والي المدينة تقديم الخطبة على صلاة العيد، مُبَيِّنًا أنه خالف السُنَّةَ، وعمل غير ما كان يعمله رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وها هو ابن عمر - كما يروي لنا الذهبي في " تذكرة الحفاظ ": يَقُومُ - وَالحَجَّاجُ يَخْطُبُ - فَيَقُولُ (أَيْ ابْنُ عُمَرَ مُتَكَلِّمًا عَنْ الحَجَّاجِ): «عَدُوُّ اللهِ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ وَخَرَّبَ بَيْتَ اللهَ وَقَتَلَ أَوْلِيَاءَ اللهِ»، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الحَجَّاجَ خَطَبَ فَقَالَ: «إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَدَّلَ كَلاَمَ اللهِ»، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «كَذَبْتَ لَمْ يَكُنِ ابْنُ الزُّبَيْر يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبَدِّلَ كَلاَمَ اللهِ وَلاَ أَنْتَ». قَالَ الحَجَّاجُ: «أَنْتَ شَيْخٌ خَرِفٌ»، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَمَا إِنَّكَ لَوْ عُدْتَ لَعُدْتُ».

مثل هذه الأخبار ومئات أمثالها قد استفاضت بها كتب التاريخ، وهي تدل دلالة قاطعة على أن هؤلاء الصحابة كانوا من الجُرْأَةِ في الحق والتفاني في الدفاع عما يعتقدون أنه حق، ومن تغليبهم الحق على كل صديق وصاحب وقريب، بحيث يستحيل عليهم أن يكذبوا على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اتباعاً لهوى أو رغبة في دنيا، إذ لا يكذب إلا الجبان، كما يستحيل عليهم أن يسكتوا عمن يكذب


(١) أخرجه " البخاري " و" مسلم " عن أبي هريرة.