للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مات سعيد، وأخذ عنه مالك في كل مَرَّةٍ يأتي بها إلى المدينة، وظل يتردد بين المدينة والشام - كما قال الزُّهْرِي - خمساً وثلاثين سَنَةٍ، فلماذا لم يبغضه علماؤها؟ لماذا لم يُكَذِّبُوهُ لو صح أنه كَذَبَ للأمويين؟ لماذا لم يتبرأ منه شيخه سعيد وهو الذي لم يبال بعبد الملك في سطوته وجبروته؟ ما الذي دعاهم إلى السكوت عنه؟ أهو الخوف؟ لم يكونوا يعرفون خوفاً في نقد الرجال، من الخليفة إلى أقل رجل في المجتمع، وَهَبْ أَنَّهُمْ خَافُوهُ، فلماذا لم ينقده العلماء في دولة بني العباس؟ لماذا لم يهاجمه أنصار بني العباس، كما هاجموا خلفاء بني أمية وأمراءهم وأعوانهم؟ لماذا سكت عنه علماء الجرح والتعديل: من أحمد بن حنبل ويحيى بين معين والبخاري ومسلم وابن أبي حاتم وأضرابهم مِمَّنْ كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فكيف إذا كان النقد لرجل من أكبر رجال الدولة الأموية وأعظمهم شهرة؟ أليس في سكوت علماء المدينة وشيوخها وفي مقدمتهم شيخه سعيد، ثم في أخذهم عنه وأخذ العلماء عنه من كل فج، وفي توثيق علماء الجرح والتعديل له في العصر العباسي - رغماً عن صلته بالخلفاء الأُمَوِيِّينَ. أكبر دليل على أَنَّ الرجل كان فوق متناول الشُبَهِ، وأرفع من أَنْ تعلق به أَلْسِنَةُ السُّوءِ، وأكرم من أَنْ يُوصَفَ بِكَذِبٍ، أو وضع، أو ممالاة لأهل الظلم والباطل؟.

قِصَّةُ الصَّخْرَةِ وَحَدِيثُ «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ ... »:

يزعم هذا المستشرق أَنَّ عبد الملك بنى قُبَّةَ الصَّخْرَةِ لِيَحُولَ بين أهل الشام والعراق وبين الحج إلى الكعبة، وأنه أراد أن يلبس عمله هذا ثوباً دينياً، فوضع له صديقه الزُّهْرِي حديث: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ ... إلخ» فهذا لعمري عجب من أعاجيب الافتراء والتحريف والتلاعب بحقائق التاريخ:

أَوَلاً - إن المُؤَرِّخِينَ الثقات لم يختلفوا في أن الذي بنى القبة (قُبَّةَ الصَّخْرَةِ) هو الوليد بن عبد الملك، هكذا ذكر ابن عساكر والطبري وابن الأثير وابن خلدون وابن كثير وغيرهم، ولم نجدهم ذكروا ولو رواية واحدة نسبة بنائها إلى عبد الملك ولا شك أن بناءها - كما يزعم جولدتسيهر -

<<  <   >  >>