للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولا تُقىً ولا وَرَعاً، وهذا هو ما فعله معاوية حين زاد درجات المنبر، أما اتخاذه المقصورة، فليس لتغيير الحياة الدينية، بل حيطة لنفسه من الاغتيال بعد أن تآمر الخوارج عليه وعلى عَلِيٍّ وعمرو بن العاص. فلما قُتِلَ عَلِيٌّ ونجا هو وعمرو، رأى من الحيطة أن لا يصلي مختلطاً بالناس بل في مقصورة تمنع عنه الأذى، وقد ذكر ذلك ابن خلدون في صريح العبارة (١).

أما الجلوس في الخطبة الثانية، فنحن نعترف بأنه تغيير من شكل العبادة بدأ به معاوية، ولكن لا تَعَمُّداً لهذا التغيير، بل اضطراراً حين كثر شحمه ولحمه، فلم يعد يستطيع الوقوف كثيراً، قال الشعبي: «أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ النَّاسَ قَاعِدًا مُعَاوِيَةُ، وَذَلِكَ حِينَ كَثُرَ شَحْمُهُ وَعَظُمَ بَطْنُهُ» (٢) ومع ذلك فقد لقي من إنكار العلماء يومئذ ما يعطيك الدليل القاطع على أن علماءنا لم يكونوا يجاملون في حقٍ أو يتساهلون في إنكار منكر يعتقدونه.

أخرج البيهقي عن كعب بن عجرة: أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن الحكم (٣)، يخطب قاعداً فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً والله تعالى يقول لرسوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (٤) ومع ذلك فلم يحتج ابن الحكم بحديث، ولم يَدَّعِ في ذلك سنة عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

أما ما ادَّعَاهُ «جولدتسيهر» من أن رجاء بن حيوه روى لهم أن رسول الله والخلفاء كانوا يخطبون جلوساً، فهذا كذب على رجاء، وافتراء على إمام ثقة من أئمة المُسْلِمِينَ، ويستحيل أن يقول رجاء هذا في عصر لا يزال فيه كثير من الصحابة يدافعون عن سُنَّةِ رسول الله دفاع المُسْتَمِيتِ، ولم نجد لنسبة هذا الحديث إلى رجاء أثراً في أي كتاب من كُتُبِ السُنَّةِ


(١) " المقدمة ": ص ٢٩٩.
(٢) " تاريخ الخلفاء " للسيوطي: ص ١٤٣. نقلاً عن ابن قتيبة.
(٣) البيهقي: ٣/ ١٦٦ ورواه مسلم في " صحيحه ": (حديث ٨٦٤) إلا أنه قال فيه (عبد الرحمن بن أم الحكم).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
[انظر " صحيح مسلم " بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: ٢/ ٥٩١، حديث ٣٩ (٨٦٤)].
(٤) [الجمعة: ١١].

<<  <   >  >>