للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النقد في حديثه أدق وأصعب من مقياس النقد في أحاديث الناس، لأنه رسول يتلقى الوحي من الله، أوتي جوامع الكلم، وأعطي سلطة التشريع، وأحاط من أسرار الغيب بما لم يحط به إنسان عادي، فلا مانع يمنع عقلاً من أن يقول حَدِيثًا يعلو عن أفهام الناس في عصره، فيكون أشبه بالتعريف الفلسفي لعصور تبلغ فيه الفلسفة مداها، ولا مانع عقلاً من أن يضع للناس أحكام المعاملات بألفاظ موجزة هي أشبه ما تكون بألفاظ القوانين، فإذا قال لنا: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقََا» وإذا قال: «لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا» وإذا قال: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ». كان ذلك في حدود السلطة التي أعطيت له في جو البلاغة التي عرف بها فلا يصح أن يستبعد منه مثل تلك الأقوال القانونية بِحُجَّةِ أنها أشبه ما تكون بمتون الفقه، إذ ماذا كان ينبغي أن يقول لو لم يستعمل هذه الألفاظ العربية الفصيحة لمدلولاتها الصريحة، وإذا جاء الفقهاء بعد ذلك فأخذوها بألفاظها ووضعوها في متونهم، أيقال: إن هذه الأحاديث أشبه ما تكون بمتون الفقه، ومثل ذلك ما أخبر به من خواص بعض النباتات أوالثمار، فقد يكون ذلك من إعجاز النبوة لتعطي الناس في كل عصر دليلاً على صدقها، فإذا لم يكتشف الناس في عصرٍ سِرَّ ما أخبر به الرسول، لا يكون ذلك دليلاً على كذب الحديث ووضعه، ومن هنا ضَيَّقَ علماؤنا دائرة نقد المتن بمقدار ما وَسَّعُوا في دائرة نقد السند، لأن الذين ينقد حالهم في السند رجال يَجْرِي عليهم من القوانين ما يَجْرِي على الناس جميعاً، أما المتن فإنه كلام ينسب إلى من هو فوق البشرية في علومه ومعارفه واستعداده.

فقد يخرج كلامه مخرج المجاز لا الحقيقة - كما فعل القرآن كثيراً - فَيَتَوَهَّمُ من ينظر فيه لأول مَرَّةٍ أَنَّهُ غير صحيح، بينما المراد منه غير حقيقته اللغوية التي تتبادر إلى الذهن.

وقد يخرج كلامه مخرج الإخبار عن المغيبات الي تقع في مسقبل الزمان، ولم يكن - وقت النقد - قد حان زمان تحققها، فلا يصح التسرع في الإنكار.

<<  <   >  >>