للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[يَتَفَهَّمُ] وَلاَ يَتَدَبَّرُ فَإِذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ جَلَسَ كَأَنَّهُ مُكَاتَبٌ» (١) أجل لقد كان منهم أُمِيُّونَ في تفكيرهم وثقافتهم، كثيراً ما أوقعتهم أُمِيَّتُهُمْ في تصحيفات وفتاوى مضحكة، فقد صلى أحدهم الوتر بعد الاستنجاء من غير إحداث وضوء، واستدل على هذا العمل بقوله - عَلَيْهِ السَلاَمُ -: «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» فهم منه صلاة الوتر، مع أن المراد منه إيتار الجمار عند الاستنقاء، وظل أحدهم لا يحلق رأسه قبل صلاة الجمعة أربعين سَنَةً على ما فهم من حديث نهي رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحِلَقِ قبل الصلاة يوم الجمعة، مع أنه الحِلَق بفتح اللام، والمراد منه النهي عن عَقْدِ الحَلَقَاتِ المُؤَدِّي إِلَى مُضَايَقَةِ النَّاسِ يوم الجمعة في المسجد، وفهم آخر من حديث «نَهَى أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» المنع من سقي بساتين الجيران، مع أن المراد وَطْءَ الحبالى من السبايا، وسئل أحدهم في مجلس تحديثه عن دجاجة وقعت في بئر فقال للسائل: ألا غطيتها

حتى لا يقع فيها شيء، كما سئل بعضهم عن مسألة من الفرائض فكتب في الفتوى: تقسم على فرائض الله سبحانه وتعالى.

لا شك أن مثل هؤلاء - وهم من عَوَامِّ المُحَدِّثِينَ - لا يستسيغون بل لا يفهمون دقة أبي حنيفة في الاستنباط، وغوصه العميق في استخراج الأحكام من النصوص، وَمِنْ ثَمَّ فَهُمْ أسرع الناس إلى إساءة الظن به. وَالصَدِّ عنه، وإشاعة قالة السوء عن تدينه، ورميه بالاستخفاف بالأحاديث.

٦ - لقد كان لأبي حنيفة أقران، وفي عصره علماء، ومن طبيعة التنافس في بني الإنسان أن تضيق صدورهم بمن يمتاز عليهم بفهم، أو يزيد عنهم في شُهْرَةٍ أو يوضع له القبول عند الناس أكثر منهم، تلك طبيعة قَلَّ أن يخلو منها إنسان حتى العلماء إلا من رفع الله نفسه عن الصَغَارِ. وملأ قلبه بالحكمة وأورثه هُدَى النَبِيِّينَ وطمأنينة الصِدِّيقِينَ.

وقد عقد ابن عبد البر في " جامع بيان العلم "، فَصْلاً خَاصًّا لتنافس العلماء وما ينتجه ذلك من أقوال بعضهم. ذكر في أوله قَوْلَ ابْنَ عَبَّاسٍ:


(١) " جامع بيان العلم ": ٢/ ١٢١.

<<  <   >  >>