للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بَعِيرٍ، فلا يعقل أن يذكر أبا حنيفة بسوء، وهو الذي قال قولته المشهورة عنه: «النَّاسُ عِيَالٌ فِي الفِقْهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ».

وأما الإمام أحمد فهو أيضاًً لم يدرك أبا حنيفة، وإنما أدرك أبا يوسف، وحضر حلقته في أول طلبه للعلم حتى روي عنه قوله: «كَتَبْتُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلاَثَ قَمَاطِرَ فِي ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ» (١) ونظر في كتب محمد بن الحسن حتى إنه سئل من أين لك هذه الأجوبة الدقيقة؟ فقال: «مِنْ كُتُبِ مُحَمَّدٍ بْنِ الحَسَنِ» (٢).

نعم أنا لا أستغرب أن يُؤْثَرَ عنه شيء في مسلك أبي حنيفة الفقهي لا في شخصه، فقد كان الرجلان متنازعي المشرب في مدى الأخذ بِالسُنَّةِ، رغم اتفاقهما في مبدأ الأخذ بها، لقد كان أحمد يقول: «ضَعِيفُ الحَدِيثِ عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ رَأْىِ الرِّجَالِ» (*) بينما كان أبو حنيفة يَتَشَدَّدُ في صحة الحديث ولا يقبل إلا ما فَشَا في أيدي الثقات. ومثل هذا الاختلاف لايعتبر طَعْنًا، وَلِكُلٍّ وِجْهَةً هُوَ مُوَلِّيهَا.

نَتَائِجُ هَذِهِ الضَجَّةِ:

تلك الحقائق التي ذكرنا لك من أسباب الضَجَّةِ الكُبْرَى حول أبي حنيفة في عصره، أحاطت مركز أبي حنيفة بالعواصف من كل جهة، ونسبت إليه آراء ما قالها، وعقائد لم يعتقدها، فهو مرجىء عند بعض الناس، وقَدَرِيٌّ عند بعضهم الآخر، وقائل بالتناسخ عند فريق، وَمُنْكِرٌ للحديث عند جماعة اَخرين، وقائل في دين الله بالرأي والهوى عند كثير من الناس.

ولقد ذهبت كل هذه الاتهامات بعد وفاة أبي حنيفة وانتشار فقهه وتلامذته في الأقطار مع الريح، فلم يبق منها شيء. ولكن الذي بقي ولا


(١) حسن التقاضي في سيرة أبي يوسف القاضي: ص ٢٨.
(٢) تأنيب الخطيب: ص ١٨٠.

<<  <   >  >>