للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

راويان فقط وفي هذه الحالة يسهل عليه أن ينقد هذين الراويين لقرب عهده بهم ولوجود من يعرفهم فيسأل أبو حنيفة عنهم، أما غير شيوخه من رُوَاةِ الحجاز والشام مثلاً فقد يتوقف كثيراً في أمرهم، وقد يرى فيهم غير ما يراه تلاميذهم، ومن ثم ترك العمل لبعض الأحاديث التي صحت عند غيره، كما ترك العمل ببعض الحديث الذي صح عنده.

٢ - إن المجتهد قد يرى في الحديث - الذي صح عنده وعند غيره - ما يخرجه عن ظاهره إلى وجه آخر لدليل قام عنده، أو ما يدعوه لترك العمل به لِعِلَّةٍ خَفِيَّةٍ أو معارضة لدليل أقوى منه عند المجتهد، أو لاعتقاده وَهْمَ الرَّاوِي أو نسخ الحديث، أو تخصيص عمومه أو تقييد مطلقه، فيترك حينئذ العمل به، فيراه المُحدِّثُ أو غيره تركاً للعمل بالحديث، وقد عد الليث بن سعد في " كتابه اٍلى مالك " سبعين حَدِيثًا صحيحاً ترك مالك العمل بها (١)، وهي مِمَّا أخرجها مالك في " المُوَطَّأ ".

وَقَلَّ أن تجد إماماً إلا وقد ترك أحاديث صحت عنده لأدلة أخرى قامت في نفسه، فهذه المواقف لا يعرفها المُحدِّثُ ولا يقف على سِرِّهَا، ومن هنا كان الفرق بينه وبين الفقيه ما قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ -: «مثل من يطلب الحديث ولا يتفقه، مثل الصيدلاني، يجمع الأدوية ولا يدري لأي داء هي، حتى يجيئ الطبيب، هكذا طالب الحديث لا يعرف وجه حديثه حتى يجيئ الفقيه» (٢).

وَاعْتَبِرْ هَذَا بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - صَاحِبُ الإِمَامِ - قَالَ: سَأَلَنِي الأَعْمَشُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، وَأَنَا وَهُوَ لاَ غَيْرَ، فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ لِي: «مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا يَا يَعْقُوبُ؟» فَقُلْتُ: «بِالحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثْتَنِي أَنْتَ، ثُمَّ حَدَّثْتُهُ»، فَقَالَ لِي: «يَا يَعْقُوبُ إِنِّي لأَحْفَظُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجْتَمِعَ أَبَوَاكَ مَا عَرَفْتُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الآنَ».

وَأَخْرَجَ بِسَنَدِهِ إِلَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: كُنْتُ


(١) " جامع بيان العلم ": ١/ ١٤٨.
(٢) الموفق المكي في " المناقب ": ٢/ ٩١.

<<  <   >  >>