للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقول: «أقول ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى لا فخرا، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها في الفخر، وقد أزف الرحيل وبدا الشيب وذهب أطيب العمر» «١».

وبالرغم مما يشيع في عبارته من تواضع فإن الرجل كان يتصف بالشجاعة والاعتداد بالنفس والثقة فيها، وقد كانت هذه الصفات لديه وليدة شعوره العميق بأنه عالم مسلم استكمل أدوات الاجتهاد وحباه الله عقلا حصيفا فاستشعر المسئولية الجسيمة الملقاة على عاتقه بما هو عليه تجاه الله وتجاه المجتمع وتجاه ضميره، ومن هذا الشعور العميق بهذه المسئولية يمكننا أن نفسر كثيرا من تصرفات السيوطي وكتاباته، فقد كانت الأمانة الملقاة على عاتقه أكبر مما يتحمله غيره، وكان ينظر فيمن قبله من كبار علماء السلف الذين تألقت نجومهم في سماء التاريخ الاسلامي، ويجعل منهم قدوة صالحة في السراء، وأسوة حسنة في الضراء، وهناك كثير من الحوادث والأدلة التي نستطيع أن ندلل بها على ما قلناه عن خلقه وشخصيته ولكنا نستدرك قبل ذلك بأن نذكر أن الرجل كانت به حدة وسرعة غضب لما يصيبه، ولكن هذا الغضب كان يستفرغ منه في رسالة تكتب، أو انقطاع عن الناس، وهجرهم ريثما تهدأ نفسه ويعاود الحياة بنشاطه المألوف، وكثيرا ما كلفته غضباته رسائل يدفع فيها عن نفسه ويهاجم خصومه.

على أن الأسلوب العنيف الذي لاحظناه في رسائله الأولى التي هاجم بها خصومه أخذ يميل إلى الهدوء والاتزان في السنوات الأخيرة من عمره، بل لعله أصبح يعرض عن كثير من أذى الخصوم ويصبر على ما يقابله من أعدائه فقد نقل عنه بعض من اتصل به أنه امتحن المحن الكثيرة، وما سمع يوما يدعو على من آذاه من الحسدة، ولا يقابله بسوء، وإنما يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وصنف في ذلك كتابا سماه «تأخير الظلامة إلى يوم القيامة» «٢».

والحقيقة أن هذه الرسالة تعبر عن الاتجاه المتزن الصابر الذي طبعت به حياة السيوطي أواخر أيامه، وبالرغم من أن الرسالة في جملتها مجموعة من النقول عن


(١) حسن المحاضرة ج ١ ص ١٩٠.
(٢) الشعراني: ذيل الطبقات ورقة ٢٢ ص ٤٣.

<<  <   >  >>