للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اجتمعت فيّ الآن اسم الحافظ وهي الشهرة بالطلب والأخذ من أقوال الرجال والمعرفة بالجرح والتعديل، والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم وتمييز الصحيح من السقيم حتى يكون ما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره مع استحضار الكثير من المتون، فمن جمع هذه الشروط استحق اسم الحافظ، وقد ذكر السيوطي أن ابن حجر كان يحفظ مائتي ألف حديث أو ما يزيد، وأن الحافظ الديمي كان يحفظ عشرين ألف حديث وذكر عن نفسه أنه يحفظ مائتي ألف حديث، وأنه لو وجد أكثر من ذلك لحفظ وقال: لعله لا يوجد على وجه الأرض الآن أكثر من ذلك «١».

وقائمة الآثار التي تركها وذكر الجانب الأكبر منها في ترجمته لنفسه تشهد للرجل بأن اهتمامه الأول كان بعلوم الحديث، ولست أحب أن أسرد ما ألفه في الحديث تجنبا للتكرار حيث سنعرض لذلك عند الحديث عن آثاره «٢».

على أن نظرتنا في الفتاوى الحديثية التي جمعت في كتابه «الحاوي» تطلعنا على قدراته الخارقة في علم الحديث وحفظه الجم، ومعرفته التي لا تقتصر على نقل آراء الحفاظ السابقين وإنما تتناول الإسناد ورواته بالنقد، وتبين رتب الأحاديث المختلفة وكونها صحيحة أو حسنة أو ضعيفة أو موضوعة، وله قدرة عجيبة على إيراد الطرق المختلفة من شتى الكتب للحديث الواحد مما يدل على الجهد الشاق الذي بذله، وطول المراس الذي أكسبه قدرة على السير في المسالك الوعرة لهذا العلم بمختلف فروعه.

وكان له عين فاحصة ناقدة في علم الحديث، وكثيرا ما حكم على كثير من الأحاديث التي شاعت على ألسنة الناس في عهده ببطلانها إذا لم يثبت لديه إسناد بصحتها كحديث «لا تسوّدوني في الصلاة» الذي قال إنه لم يرد «٣»، وحديث «التكبير جزم» الذي أفتى بأنه من قول إبراهيم النخعي وليس من قول


(١) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة ١٠ ص ١٩، ٢٠.
(٢) حسن المحاضرة ج ١ ص ١٩١، ١٩٢.
(٣) الحاوي للفتاوي ج ١ ص ٥٣٣.

<<  <   >  >>