للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فنقل عن الكيا الهراسي وابن برهان وإمام الحرمين والغزالي نقولا ينكر فيها أصحابها ثبوت اللغة على هذا النحو.

والواقع أن موقف هؤلاء صحيح تماما، وهو ما كانت له السيادة في البيئتين الأصولية واللغوية، ذلك أنهم لاحظوا أن اللغة لا يطرد فيها تسمية الأشياء بحسب المعاني، فالبنج لا يسمى خمرا وإن كان يخامر العقل، والدار لا تسمى قارورة وإن كانت الأشياء تستقر فيها، كما أن الواقع اللغوي الذي يرى اللغة ظاهرة اجتماعية قائمة على الاصطلاح والمواضعة بين أبناء المجتمع يثبت أن معاني الألفاظ إنما حددها ما تعارف عليه المجتمع، وأن تطور الدلالات أو تغيرها تعميما أو تخصيصا أو تضادا يخضع لقوانين معينة ليس من بينها هذا القياس العقلي النظري المجرد، ولذلك فلقد أصاب القدماء في إنكارهم ثبوت اللغة على النحو السابق لأنه تعميم للدلالة أو تغيير لها دون وضع اعتبار لما تعارف عليه المجتمع الناطق لها من تعيين كل لفظ بازاء دلالة معينة، ودون أن يكون هذا التغيير حادثا عن طريقه الطبيعي، ولذلك فقد نص هؤلاء المنكرون على أن اللغة إنما تثبت نقلا عن العرب.

وليس هذا المبحث كما يبدو مبحثا نظريا عقليا تماما، بل هو مبحث عملي يهتم به الأصوليون لصلته بالحكم الشرعي واحتمال تغيره تبعا لتغير مدلول اللفظ أو تعميم هذا المدلول أو تخصيصه، فمن يسمي النبيذ خمرا لتحقق معنى المخامرة فيه يدخله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «حرمت الخمر لعينها»، ولذلك فانكارهم ضروري لتفسير نصوص القرآن والسنة المتصلة بالأحكام الشرعية بحسب الدلالات التي كانت لألفاظها أوان البعثة وقبل أن يطرأ تغير أو تطور لهذه الدلالات، ذلك أن هذا القياس مبناه على تعميم دلالات خاصة فكأنه يعطي بعض الألفاظ ما لم يكن لها وما لم يعرفه المجتمع الناطق لها، وفي ذلك خطورة على النص الشرعي.

ويتصل بحث هذا الموضوع بنشأة اللغة فقد يتصور أن من يقول بكونها مواضعة واصطلاحا يمكن أن يجيز هذا النوع من القياس، ومن يقول بالتوقيف لا يجيزه، ولكنّ الحقيقة أننا لا نرى من بين القائلين بالمواضعة أو المتوقفين في

<<  <   >  >>