للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أقسام الناس في الاستعانة]

الناس في الاستعانة على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: أخيار خلص؛ وهؤلاء هم الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين يستعينون بالله على نصرة دينه ونشر دعوته وتعلم العلم ونشره بين الناس، كما كان يفعل الصحابة الكرام: (بلغوا عني ولو آية)، وكما فعل من بعدهم من المحدثين والفقهاء، الدين كانوا يستعينون بالله على تعلم العلم ونصرة الدين.

وأذكر قصة طريفة للإمام ابن خزيمة نتبين من خلالها كيف كان السلف يستعينون بالله في قضاء حوائجهم، تقول القصة: إن أربعة نفر من بينهم ابن خزيمة جلسوا في مكان يطلبون العلم ويكتبون الحديث، فإذا جاء الليل ذهب أحدهم لينظر هل هناك طعام وشراب أم لا؟ وبقوا على هذه الحالة ثلاثة أيام لا يجدون طعاماً ولا شراباً، وفي الليلة الرابعة قالوا: لا بد أن أحدنا يسأل الناس حتى يعطوه طعاماً وشراباً لنا، حتى لا نموت جوعاً، فارتجف قلب ابن خزيمة؛ لأنه اعتاد أن يكون طالباً للعلم لا طالباً للمال من الناس، ورفض أن يفعل ذلك، فقالوا: نعمل قرعة، ومن وقعت عليه فيلزمه الذهاب لذلك، فعملوا القرعة فخرجت على ابن خزيمة، فقال: سأذهب، لكن دعوني أصلي لله تعالى، وانظروا إلى الاستعانة الحقة، وإلى اليقين الحق في ربه جل في علاه، فقام يصلي لله جل في علاه فبكى فقال: اللهم لا تعوزني أن أسأل غيرك في هذا الأمر.

ثم ما إن سلم وقال: السلام عليكم ورحمة الله إلا ووجدوا الباب يطرق طرقاً شديداً، فلما فتحوا الباب وجدوا الجائزة من السلطان، دنانير ودراهم وأطعمة، وهذا بسبب الاستعانة بربهم جل في علاه، فالأخيار الخلص الذين اصطفاهم الله جل في علاه يستعينون بالله على دين الله جل في علاه، على نشر دين الله جل في علاه، على نصرة دين الله جل في علاه.

والفقيه الأريب اللبيب الذي يقول: استعانتي بربي على حفظ القرآن تجعلني أحفظ القرآن لا الإتقان على المشايخ، استعانتي بربي على تحصيل العلم تجعلني أحصل العلم؛ لأن الله جل وعلا ذو فضل عظيم سبحانه جل في علاه.

الصنف الثاني: شرار خلص، وهؤلاء الذين لا يعبدون الله ولا يستعينون به، فهم كما وصفهم الله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:٤٤] يأكلون ويشربون ويتمتعون وهم أقل من الأنعام، لا يذكرون الله ولا يتعبدون لله ولا يستعينون بالله جل في علاه.

الصنف الثالث: قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً: وهؤلاء يخرج منهم فرعان: الفرع الأول: مبتدعة ضالة -وهم أهل عبادة- وهم: القدرية والمعتزلة، فهؤلاء يجتهدون في العبادة لله لكنهم لا يستعينون بالله على أداء هذه العبادة؛ لأنهم يعتقدون أن الله لا يخلق أفعال العباد -والعبادة أفعال تخرج منهم، وهذه الأفعال هم يخلقونها لكنهم لا يمحون فضل الله عليهم كاملاً، فهم يقولون: إن الله خلق لنا آلات نستعين بها على العبادات، كالسمع فنسمع القرآن، ونسمع الأذان فنذهب نصلي، وكالبصر فنقرأ القرآن ونعقل عن الله أوامره، ونقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكالماء خلقه الله لنتوضأ، وكالطعام نستعين به على الطعام، فهم يردون الاستعانة بأنفسهم، وجعلوا أنفسهم خالقين مع الله تعالى، ولذلك قال بعض علمائنا: إن المعتزلة أصحاب أجرة، يقولون: الجنة لنا بأعمالنا وليست برحمة الله جل في علاه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله.

قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

فهؤلاء قد ضلوا في باب الاستعانة، فما سددوا وما وفقوا، بل خسروا كثيراً، ونسأل الله جل وعلا أن يهدينا وإياهم سواء السبيل.

الفرع الثاني: الذين استعانوا بربهم، لكن ما استعانوا على العبادة، وإنما استعانوا على رغيف العيش، واستعانوا على الدرهم والدينار، واستعانوا على الدنيا، فهؤلاء ما استعانوا الاستعانة الحقة، فالاستعانة الحقة: أن يستعين بقدرة الله على عبادة الله جل في علاه، والله قد تكفل لهم بهذا الرزق، لكنهم لما جهلوا جهلاً مركباً قالوا: الاستعانة نأخذ بها على أمر الدنيا لا على أمر الآخرة، وفي مسند أحمد بسند صحيح عن علي بن أبي طالب أنه قال: من انشغل بالله كفاه الله كل الهموم وكل الأمور، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نفث في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها).

فأنت قد تكفل الله لك بالرزق الذي خلقه لك، فانشغل أنت بما خلقت له وهي العبادة، ولذلك استقى ابن القيم كلاماً بديعاً من هذا الحديث فقال: خلق الله الكون لك وخلقك أنت له، فانشغل بما خلقت له ولا تنشغل بما خلق لك، فما خلق لك سيأتيك، فالرزق يكون خلفك كما أن الموت خلفك، وأنت مطلوب مأمور بعبادة الله، فاخلص العبادة لله جل في علاه.

<<  <  ج: ص:  >  >>