للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم التوسل بجاه النبي]

ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم توسل بدعي؛ وذلك لما يأتي: أولاً: من جهة الأثر، فنحن نتعبد الله بقال الله وقال الرسول، فأتونا بأثر عن الله ورسوله بأنه يجوز للإنسان أن يقول: اللهم بجاه النبي أعطني كذا، فإذا لم يجدوا فالأصل في العبادات التوقيف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: باطل، وإذا كان التوسل عبادة فلا يمكن أن يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه إلا بأثر، ولا أثر عندكم، فإن قلتم: هذا زعم باطل، فهذا الأثر عن عثمان بن حنيف: (أن رجلاً ضريراً الحديث) قلنا: هذا دليل محتمل، قالوا: إن هناك زيادة في الحديث قد نصح الراوي بها رجلاً أعمى في خلافة عثمان أن يدعو بمثل ذلك، قلنا: الحديث إن صح فسمعاً وطاعة، وأول من يتوسل بجاه النبي نحن؛ لأننا تعبدنا الله بالآثار، وندور مع شرعنا حيث دار، لكن لنا معكم وقفات في هذا الحديث: الأولى: أن هذه الزيادة في الحديث التي ذكرتموها ضعيفة، وإن كان أصل الحديث صحيحاً، ولكن قوله: (فإن كانت لك حاجة فأت بمثل ذلك) فقد أجمع المحدثون على أنه ضعيف، ولم يصححه أحد من أهل العلم، والأحكام والتعبدات فرع عن التصحيح، فلا حجة لكم فيه.

ثم نقول من باب التسليم جدلاً: إن صح الحديث فله توجيه آخر، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كانت لك حاجة فأت بمثل ذلك)، المقصود منه: إن كانت لك حاجة فتعال إلي ادعو لك، وخذ هذا الدعاء وسيلة؛ ليقضي الله حاجتك، فإن قالوا: من أين أتيتم بهذا الفهم؟ قلنا: أتينا به من الأثر ومن فعل الأصحاب، أما من الأثر: فإن الراوي وهو يروي الحديث قال: إن الرجل قال: يا رسول الله! ادع الله لي، وهذا ليس توسلاً محضاً بذات النبي، بل هو صريح في طلب الدعاء منه صلى الله عليه وسلم، فقوله في صدر الحديث: يا محمد صلى الله عليه وسلم! يا نبي الرحمة! أتوسل بدعائك، وقوله: ادع الله لي، يبين لنا أنه توسل بدعاء النبي، ثم قال الرجل بعدما انتهى من الصلاة: (اللهم شفعه في وشفعني فيه) وهذه الزيادة ثابتة، ومعناها: تقبل دعائه في، واقبل توسلي بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لي، وهذا توسل ظاهر بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فرد الله عليه بصره.

الثانية: من فعل الأصحاب، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما جاءه قومه وقالوا: هلك المال وجاع العيال، فتذكر عمر الأيام الخوالي وبكى، وكأنه يقول: أين أنا من رسول الله عندما دخل عليه رجل وهو على المنبر فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وجاع العيال؟ وقال -وكأنه يتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم-: ادع الله أن أن يغيثنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أغثنا، فما نزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر، إلا والمطر يتحادر من على لحيته) فذهب عمر إلى العباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك، واليوم نتوسل إليك بعم نبينا، أو بعم نبيك فاسقنا، -فتوسل بدعاء العباس، وهذا ظاهر وجلي بفضل الله سبحانه وتعالى- فقام عمر على مجمع ومحفل من الصحابة وقال: يا عباس! قم فادع الله أن يسقينا، والمعنى: نتوسل بدعائك لقرابتك من النبي صلى الله عليه وسلم، فسقاهم الله جل في علاه، وكان عمر فقيهاً عالماً محدثاً، وكان الصحابة أعلم بكل صغير وكبير، ودقيق وجليل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعلمهم وتربوا على مائدته، فلو كان من الجواز بمكان أن يذهبوا إلى قبر النبي فيتوسلوا بجاهه لفعلوا، فلما امتنعوا من ذلك مع وجود الحاجة إليه دل على أنه لا يجوز التوسل به صلى الله عليه وسلم، وهناك قاعدة قعدها العلماء، فقالوا: إذا وجد المقتضي وانتفى المانع، ولم تحدث العبادة فهي حرام باطلة، فالمقتضي هنا موجود وهو الجدب وهلاك المال وجوع العيال، والمانع منتفي، فليس هناك ما يمنعهم أن يذهبوا إلى الحجرة الكريمة، ويقولوا: اللهم إنا نتوسل إليك بجاه النبي أن تسقنا، ولم يفعل عمر ولا الصحابة ذلك، وأجمعوا إجماعاً سكوتياً على فعل عمر وذهابه إلى العباس يستسق بدعائه، فدل ذلك على أن هذا إجماع من الصحابة، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما قول العز بن عبد السلام بجواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد علق الجواز على صحة الخبر، وإذا كان الخبر فيه هذه الزيادة التي لم تصح فلا حجة فيه.

إذاً: التوسل البدعي هو أن يتوسل بشيء أجنبي عن الدعاء، كجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا التوسل لا يجوز، ولا ينفع صاحبه بشيء.

<<  <  ج: ص:  >  >>