للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مسألة: الاسترقاء ينافي التوكل أو لا ينافيه، وأدلة الفقهاء في ذلك]

اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: قول جمهور الحنابلة، وهو ترجيح النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي عياض من المالكية، قالوا: هو قادح في كمال التوكل.

واستدلوا على ذلك من الأثر والنظر: فأما من الأثر: فاستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)، ثم تركهم ودخل، فخاضوا في صفة هؤلاء، فقال بعضهم: هم الذين ولدوا في الإسلام، وأدلى كل منهم بدلوه، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هم الذين لا يسترقون، وفي رواية: لا يرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) والحديث له روايتان: الرواية الأولى: لا يسترقون.

الرواية الثانية: لا يرقون.

ورواية: (لا يرقون) رواية شاذة لا تصح، ومن أولها قال: لا تكون برقى شركية، وهذا كلام مخالف للظاهر لا يصح، فإن قال: لا يصح لنا أن نوهم الراوي، نقول: بل وهم الراوي؛ لأنه أتى بلفظة غير متفق عليها، والرواية المتفق عليها: (لا يسترقون) فرواية: (لا يرقون) شاذة ضعيفة لا يؤخذ بها، والصحيح الراجح: هي رواية: (لا يسترقون) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رقاه جبريل، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالرقية، وذلك بقوله: (استرقوا لها، فإن بها سفعة في وجهها، فقال أصحاب هذا القول: إن الصفة التي جعلتهم من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة: أنهم على ربهم يتوكلون، وهذا التوكل تمامه بخصال ثلاثة: أنهم لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون، فقال: لا يسترقون) فمن استرقى فقد نافى التوكل، وتكون الرقى قادحة في كمال التوكل.

واستدلوا على ذلك أيضاً بدليل أصرح من هذا الدليل، ألا وهو: جاء في مسند أحمد بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اكتوى - لأن الكي مكروه في شرعنا - أو استرقى فقد برئ من التوكل) وهذا صريح بأن من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل.

وأما دليلهم من النظر فقالوا: إن المرء إذا استرقى فرقاه الراقي فقدر الله له الشفاء، فإن قلبه سيميل للراقي، فيكون في قلبه نوع ميل لغير الله جل في علاه، وهذا يقدح في كمال التوكل، لا سيما إذا تكرر هذا الأمر، وتكررت الرقية وتكرر الشفاء.

القول الثاني: قول كثير من المالكية، ورجحه القرطبي وابن جرير الطبري فقالوا: الرقى ليست قادحة في التوكل.

واستدلوا على ذلك بأدلة: الدليل الأول: حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الرقى، وهذا على العموم.

الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا) ولو كانت قادحة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً قالوا: هي بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وهذه يكون فيها تمام التوكل؛ لأنها بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى.

واستدلوا أيضاً بدليل آخر وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاضربوا لي معكم بسهم) فأقر الرقية بالفاتحة، وهذا الحديث ليس فيه نزاع بحال من الأحوال.

واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام) فقالوا: هذا نوع من التداوي المعنوي، لأن الأسباب: أسباب شرعية، وأسباب قدرية مجربة، والأسباب الشرعية: معنوية، وحسية، فقالوا: إن الرقى نوع من أنواع التداوي، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم، واسترقى للمرأة التي في وجهها سفعة، أي: سواد، فقالوا: هذه أدلة على أن الرقى لا تقدح في كمال التوكل.

وأما من النظر فقالوا: إن الذي يسترقي لا في الراقي ولا يعتقد في الرقية، وإنما يعتقد في الرب الذي هو مسبب الأسباب، فإن كان اعتقاده صحيحا فلا قدح في كمال التوكل.

<<  <  ج: ص:  >  >>