للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تأويل أهل البدع لصفة استواء الله على العرش والرد عليهم]

إن أهل البدع خالفوا أهل السنة والجماعة في هذه الصفة الجليلة العظيمة، فقد قالوا في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]: إن الله لم يستو على العرش؛ لأنه لو استوى فقد احتاج إلى العرش، وكل شيء يحتاج إلى العرش، ولو استوى حقيقة يكون قد جلس كما يجلس المرء والعياذ بالله، وهذا فيه تشبيه الخالق بالمخلوق، فإذا قلنا: إذا قال الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] فما المراد من هذا القول؟ قالوا: مراد الله من هذا القول: الرحمن على العرش استولى، لا استوى، قالوا: وعندنا من اللغة ما يعضد ما نقول، وهو قول الشاعر: استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق أي: ما أهريق دم في أخذه للعراق، قالوا: استوى بشر على العراق من غير سيف يعني: استولى، فقالوا: هذه لغة تدل على أن استوى بمعنى: استولى، واللغة هي لغة العرب، والقرآن نزل بها، إذاً: ليس المراد استوى؛ لأننا لو أثبتنا لله الاستواء لشبهنا الخالق بالمخلوق، وأيضاً: لنا لازم باطل في هذا التشبيه حيث إننا لو أثبتنا هذه الصفة لله فإن الله يحتاج إلى العرش، والله لا يحتاج إلى أحد بل كل الخلق يحتاجون إليه.

نقول: إذا قال قائل: ما الاسم الذي يدل على أن كل الخلق يحتاجون لله جل في علاه؟ ف

الجواب

الصمد، أي: يصمد إليه الخلائق في حوائجهم، وبذلك يكون الرد على أهل البدعة والضلالة كالأشاعرة الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء كالتالي: نقول: إنكم خالفتم ظاهر الكتاب؛ لأن الله قال: {اسْتَوَى} [طه:٥] وأنتم قلتم: استولى، أأنتم أعلم أم الله؟ وخالفتم ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله فوق العرش ويعلم ما نحن عليه) وكأنكم تدعون أنكم أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب وزور، وخالفتم بذلك إجماع أهل السنة والجماعة.

وكذلك نقول: هناك لوازم باطلة لو قلنا بقولكم، فلو قلنا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] بمعنى: استولى يلزم من ذلك أن هناك من هو أقوى من الله قد استولى على العرش ثم حدث الصراع والعراك ثم بعد ذلك استرد ملكه والعياذ بالله، وهذا من أكفر الكفر، فإن الله مالك كل شيء ورب كل شيء، وإذا أراد شيئاً {قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩]، فمعنى قولكم: استوى أي: استولى، كأنه أخذ منه، وفي هذا دلالة على الضعف، وفيه قدح في الربوبية، إذ من لوازم الربوبية أن الله القادر القاهر فوق عباده، فأنتم هكذا قدحتم في ربوبية الله جل في علاه.

أيضاً من اللوازم الباطلة أنكم إذا قلتم: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] بمعنى: أنه استولى، معنى ذلك: أن الله يحدث عباده بما لا يفقهون، هو يقول: استوى، وأنتم تقولون: لا، استولى، وكأن الله يخاطبنا بما لا نعقل، وكأن ظاهر القرآن كفر حاشا لله من ذلك، فإن الله قال عن القرآن أنه أنزله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:١٩٥] فهو يخاطبنا بما نعلم فهذا لازم باطل من اللوازم الباطلة أيضاً.

وكذلك نقول: إذا خصمناكم بهذه اللوازم فلا بد علينا أن نرد هذه الشبه التي أتيتم بها، فقد قلتم: عندنا من اللغة ما يثبت أن استوى بمعنى: استولى، واحتججتم ببيت شعري، فنقول لكم: أولاً: القاعدة عند العلماء: أنَّ المعنى إذا تردد بين أن يكون شرعياً أو أن يكون لغوياً فإننا نقدم الشرع على اللغة، أي: إذا تردد المعنى بأن كان بوضع الشرع له معنى، وفي وضع اللغة له معنى آخر، فنحن نقدم وضع الشرع والدلالة على ذلك، نظير ذلك في الشرع قول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:٤٣] والصلاة في اللغة معناها: الدعاء، ومعنى ذلك: أن الله يأمر كل إنسان أن يقف، أو يجلس، أو ينام، أو يقوم على أنه يدعو الله جل في علاه، وليس {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:٤٣] معناها: تدعو الله جل في علاه، بل {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:٤٣] تعني: الخمس الصلوات التي بينها رسول الله، فالصلاة معناها في الشرع: هذه الألفاظ المخصوصة والحركات المخصوصة في أوقات مخصوصة، وإن كانت في اللغة معناها: الدعاء، فإذا تردد المعنى بين الأمرين فإنا نأخذ بالشرع، وهنا تردد الأمر في الشرع بالاستواء وبين الاستيلاء فنقدم الاستواء وهو العلو والاستقرار.

ثانياً: نقول لكم: هذا البيت ليس بيتاً عربياً، وليس هذا الكلام من كلام أهل اللغة، بل هو بيت لشاعر نصراني ليس من العرب، فهذا البيت أيضاً ليس من لغة العرب.

ثالثاً: نقول: عند علماء اللغة قاعدة لغوية تقول: الأصل بقاء اللفظ على ظاهره ما لم تأتِ قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، بمعنى: إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً: صلِّ فأنت ستقول: أصلي يعني: أقوم فأصلي على الأقل ركعتين أو ركعة الوتر، أما إذا جاءت قرينة بمعنى: صلِّ للدعاء فسأصرفه من الوضع الشرعي إلى الوضع اللغوي.

مثال ذلك: حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان صائماً ودعي لطعام، فقال: (من دعي إلى طعام فليأكل وإلا فليصل) فليصل هنا بمعنى: فليدع للذي دعاه للطعام، فالقرينة صرفت الظاهر من الوضع الشرعي إلى الوضع اللغوي.

فنقول: استوى بشر على العراق الأصل فيها علا واستقر لكن البيت يصح تأويله بالسياق؛ لأن القاعدة عند اللغويين أيضاً أن السياق والسباق واللحاق من المفسرات، فالسياق في قول الشاعر: استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق فقوله: (من غير سيف) مفسر لقوله: استوى، بمعنى: أنه استولى من غير أن يعمل فيهم القتل، فأصبحت القرينة في نفس البيت أن استوى بمعنى: استولى؛ لأنه ذكر السيف، وذكر عدم إراقة الدماء، فهذه قرينة تثبت أن المقصود: هو الاستيلاء وليس العلو والاستقرار، فأين هذه القرينة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]؟ أين القرينة التي تصرفه؟ ليس ثمة قرينة، فإن لم يكن هناك قرينة فلا بد أن يبقى اللفظ على ظاهره، وهو أنَّ: (استوى) يعني: علا واستقر، فهذا معنى الاستواء.

<<  <  ج: ص:  >  >>