للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عدل عمر في رعيته]

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد.

ما زلنا مع سيرة الوزير الثاني للنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إيه يا عمر! ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير الفج الذي سلكته) والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان في هذه الأمة محدثون -أو ملهمون- لكان عمر) رضي الله عنه وأرضاه، الذي وافق ربه في أكثر من حالة.

روى أشهب عن مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مر بطريق مكة فأبصر راعياً يرعى بمكان جدب فناداه، فقال: قد رأيت مكاناً هو أخصب من مكانك فالحق به، ثم قال على إثر ذلك: كل راعٍ مسئول عن رعيته.

هذه دلالة على عدل عمر وقوة عمر في الحق، عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الذي أتعبته هذه الخلافة، ينظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه عندما كان على فراش الموت ويقول: خذوا ثوبي هذا فضعوه في بيت مال المسلمين، ثم ائتوني بثوب خلق -يعني بال- أكفن فيه، فقال عمر بعدما بكى: قد أتعبت من بعدك يا أبا بكر! وكان عمر رضي الله عنه أعدل ما يكون في رعيته؛ حتى إن رسول الروم جاء يسأل عن أمير المؤمنين فقال: أين قصر أمير المؤمنين؟ قالوا: هناك، وكان عمر بن الخطاب ينام تحت الشجرة.

قال: أسأل عن أمير المؤمنين لا على آحاد الرعية.

قالوا: هو هناك.

فذهب إليه فوجده يتوسد نعله فقال: هذا هو أمير المؤمنين؟ قالوا: نعم، فقال الكلمة المشهورة: يا عمر حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.

فانظروا إلى عدل عمر، وانظروا إلى النصيحة التي أسداها أمير المؤمنين لرعيته.

قال ابن القاسم عن مالك قال: دعا عمر بن الخطاب رجلاً يستعمله، فجاء ابن لـ عمر، فأخذ عمر يقبله، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين أتقبله؟ قال: نعم، فقال: إن لي أولاداً ما قبلت منهم أحداً قط، فقال له عمر: أنت لا ترحم ولدك فأنت للناس أقل رحمة، فأبى أن يستعمله! انظروا إلى دقة النظر لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقد استنبط من عدم تقبيل الرجل لأولاده أنه لا يرحم الأولاد وهم أقرب والقاعدة تقول: الأقربون أولى بالمعروف، فإذا كان الأقربون لا ينالون المعروف منه فإن الأبعدين لا يمكن أن يأخذوا منه معروفاً، فلم يستعمله عمر رضي الله عنه، وهذا هو الفقه.

وأيضاً روى ابن القاسم عن مالك قال: مر عمر بن الخطاب على منزل طويل البناء، فلما رآه طويل البناء جلس في ظله حتى جاء صاحبه، فقال له: ما حملك على أن أقمت هذا البنيان؟ فقال: يا أمير المؤمنين! ما أطلته أشراً ولا رياء، غير أني كنت ببلد يطيلون البنيان فاتخذت مثلهم، فقال: أظن الأمر على ما قلت، ولكن أقصره حتى ترده مثل بنيان الناس، فلا يتأسى بك أحد.

<<  <  ج: ص:  >  >>