للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفرق بين القاعدة والضابط]

كثيراً ما نسمع من فقهائنا يقولون: وضابط المسألة كذا، والقاعدة عند العلماء كذا، فنقول: ليس هناك فرق بين الضابط والقاعدة الفقهية عند المتقدمين، لكن الصحيح أن المتأخرين ابتدءوا يفصلون المسألة، حتى تنضبط وتسهل على طلبة العلم، فقالوا: الفارق بين الضابط وبين القاعدة: أن الضابط يختص بباب واحد، والقاعدة تختص بأبواب شتى، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه).

هذا الحديث رواه الخمسة، وهو ضابط في باب واحد، وليس في أبواب كثيرة، أما قولنا: الضرورات تبيح المحظورات، فهذه قاعدة كلية فالفارق بين القاعدة والضابط: أن القاعدة الكلية تدخل في المياه وفي الصلاة وفي البيوع وفي النكاح وفي الحدود.

فقولنا: تدخل في المياه، مثال ذلك: رجل رأى خلخال امرأته في ضوء القمر، فأراد أن يكسب الأجر معها فجامعها، فقام ليغتسل فما استطاع؛ لأن البرد شديد، فنقول له الآن: محظور عليك أن تتيمم مع وجود الماء، لكن الرجل كان فقيهاً وقال: أنا مخير بين التيمم وبين الاغتسال، والتيمم أيسر، والمشقة تجلب التيسير، وديننا دين اليسر، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه)، بل وهناك دليل آخر وهو: (أن عمرو بن العاص كان في غزوة ذات السلاسل وهو أمير الجيش، وكان البرد عليه شديداً، فأجنب فتيمم وصلى بالناس، فتبسم صلى الله عليه وسلم لما علم بفعله، وأقره على هذه الصلاة)، فهنا دخلت القاعدة: المشقة تجلب التيسير، أو قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، وهذا هو الفرق بين القاعدة والضابط، أي: أن الضابط يكون في باب واحد، وأما القاعدة فتدخل في الطهارة، وفي الصلاة، وفي غير ذلك.

مثال ذلك: رجل يصلي ثم حدث له حادث ابتلاه الله به؛ ليرفع درجاته فما استطاع أن يقوم، وعندنا القيام في الصلاة واجب من الواجبات، بل عند الحنابلة ركن، والدليل ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً)، وجه الدلالة من الحديث أنه لا يباح لك أن تصلي قاعداً إلا إذا لم تستطع القيام، فنقول له: تدخل هنا قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات في باب الصلاة، فهنا الضرورة أباحت لك ذلك.

أيضاً في مسألة الطعام يحرم على الإنسان أن يأكل الضبع؛ لأن له ناباً، لكن هذه المسألة خلافية، فعند الشافعية يجوز أكل الضبع، لأن الشافعي يقول: ما زلت على المروة والصفا أجدهم يأكلونه في مكة، والحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيه شاة)، أي: جعله من الصيد، وهذه دلالة على أنه يحل أكله.

أيضاً: يحرم أكل لحم الخنزير، لكن يجوز للمضطر أن يأكله؛ لأن الله قال: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥]، فالخنزير وإن كان محرماً يجوز أكله عند الضرورة، والقاعدة الفقهية تقول: الضرورات تبيح المحظورات، لكن الضرورات تقدر بقدرها، فإذا كان يرى في نفسه الخفة، وأنه قد يصل إلى مكان يأكل فيه الطعام الحلال، فإنه يأكل أكلاً قليلاً حتى لا يموت ثم يذهب إلى مكان الحياة.

إذاً الفارق بين القاعدة والضابط: أن الضابط يكون في باب واحد، والقاعدة تكون في أبواب شتى، وبينهما عموم وخصوم، فالقاعدة أعم من الضابط.

<<  <  ج: ص:  >  >>