للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأحكام التي علقت على اللفظ ولم تحد شرعاً ولا لغةً

هناك أحكام علقها الشارع على ألفاظ، وهذه الألفاظ ليس لها حد شرعي ولا لغوي، وأمثلة ذلك: قال الله تعالى عن كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:٨٩] ولا يوجد تحرير رقبة الآن، فلو وجد رجل ميسور وأقسم يميناً فوجد غيره هو أفضل منه، نقول له: ائت الذي هو خير، ثم كفر عن يمينك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والتكفير بإطعام عشرة مساكين يكون كما قال تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:٨٩]، وهذا حسب العرف.

فمثلاً: الذي يسكن في مبنى بآلاف، وهو يطعم أهله كل يوم لحماً أو سمكاً أو دجاجاً فلما يكفر نقول له: كفر من أوسط ما تطعم أهلك.

ومثلاً: رجل في كرموز ما عنده طعام إلا ما أعطاه الله جل وعلا لسد حاجته، فنقول له: أطعمهم البر أو الشعير، أطعمهم من أوسط ما تطعم منه أهلك، والكل يأكل قشر الفول وليس الفول، فإذا أطعمت فأطعم بقشر الفول، المهم أنك تطعم من أوسط ما تطعم به أهلك.

ومن الأمثلة أيضاً: الوصي الذي يكون ولياً على مال يتيم، فمحرم عليه في مال اليتيم أن يحرقه أو يأكله، ولكن يمكن له أن يتجر فيه، وأن يرعاه، وقد بين الله تعالى أن له حالتين: الحالة الأولى: أن يكون ولي اليتيم غنياً.

الحالة الثانية: أن يكون فقيراً.

فالله جل وعلا بين لنا الحكم في الحالتين، قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:٦] أي: لا يجوز له أن يأخذ شيئاً من مال اليتيم، وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:٦]، أي: إباحة الأكل بشرط ما تعارف الناس عليه، وإن جاءه ضيف أعطاه حاجته فقط، دون أن يرتقي عن المعروف في طعامه كل يوم.

ومن الأمثلة كذلك: قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:٢] والعدالة تفتقر إلى العرف، وضابطها: خلو المرء من الفسق وخوارم المرءوة، وهي: ملكة يكتسبها المرء تربأ بنفسه أن يقع في الكبائر، أو يصر على الصغائر.

ويفسق الإنسان إذا أتى الكبائر دون توبة، فإن تاب فليس بفاسق.

فمثلاً: لو زنى شخص، ثم تاب توبة نصوحاً، سواء تاب بينه وبين ربه، أو أقيم عليه الحد، فإنه ترجع عدالته كما هي ولا تسقط، فمن فعل كبيرة ولم يتب فهو فاسق، أو فعل صغيرة واستمر عليها فهو كذلك، كالرجل الذي ما من امرأة تمشي أمامه إلا ونظر إليها، فتمر الأولى فيتبعها بصره، ثم تمر الثانية ويتبعها بصره، ويأتي اليوم الآخر ويقول له الرجل: اتق الله في نفسك، فتمر الأولى فيتبعها بصره، والثانية، وهكذا هو مصر على الصغائر، أو رجل قبل امرأة فيقول: هذا التقبيل ليس فيه شيء، وليس كبيرة، فيقبل الأولى، ويقبل الثانية، ويصر على التقبيل، فنقول له: أنت فاسق؛ لأنك أصريت على الصغائر، فالفسق علامته: فعل الكبائر دون توبة أو الإصرار على الصغائر، وخلو الرجل من الفسق نصف عدالة، والنصف الثاني: خلوه من خوارم المروءة، والمروءات هنا ترجع للعرف.

ومثال خوارم المروءة الأكل ماشياً، وأذكر أن البخاري مر على رجل كان يريد منه حديثاً فنظر إليه فوجده يأكل تمرة على بابه فرجع وتركه، ورأى البخاري أيضاً محدثاً فذهب إليه ليأخذ منه الحديث فوجده يشير إلى الحمار: أن تعال أعطيك، ولا يوجد شيء، وقرب إليه القفة التي فيها الشعير ولم يكن فيها شعير فتلهف الحمار على القفة فما وجد شعيراً، فـ البخاري قال: أما أطعمته؟ قال: أنا أسليه، قال: تكذب على الحمار! والله لا آخذ منك حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وتركه، ورأى أن هذا خارم للمروءة، واليوم لو واحد يفعل ذلك مع الحمار فهو صادق مصدوق، والمهم ألا يكذب على البشر، ونحن نفعل ذلك مع الحمار، ومع الذين أتوا بالحمار، والصدق فينا أصبح عزيزاً، ويغفر الله لنا، وأقلنا كذباً، أو أكثرنا صدقاً الذي يعرض، ويعيش على التعريض، هذا أفحلنا صدقاً ويغفر الله لنا.

دخل راوٍ من الرواة على شخص فقال له: تحدثني وأنت تأكل، أما تخشى أن تسقط مروءتك؟ قال: تحدثني الآن عن المروءة، هذا كان في القرن الثالث، فالمروءات ذهبت مع أصحاب المروءات، والجلوس في الطرقات ليس من خوارم المروءة، وأنكر علي البعض أننا كنا نتحدث في بعض المسائل الشرعية، ونحن نجلس في الطريق -والجلوس في الطرقات ليست من خوارم المروءة شرعاً- والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الجلوس في الطرقات، فقالوا: (يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا، بد قال: فأعطوا الطريق حقه) وحق الطريق: غض البصر، ورد السلام، وكف الأذى.

والجلوس في المقاهي من خوارم المروءة، فإذا رأيت رجلاً أمامك قاعد يشرب الشيشة، وأنت جالس بجانبه تنظر إليه، ولا تنكر عليه، فهذه من خوارم المروءة، حتى قال بعض العلماء: إن الجلوس في الأسواق من خوارم المروءة؛ لأن الأسواق فيها الساقطات وفيها الكذب، وفيها الحلف بالله كذباً، وكل هذه من خوارم المروءة.

فالمقصود أن قول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:٢]، أحالنا على العرف في مسائل العدالة، والعدالة تكون بالخلو من الفسق والخلو من خوارم المروءة.

أيضاً: قول الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:٢٩] والتراضي عمل قلبي، فالأعراف تتحكم فيه وتدل عليه.

ومن أمثلة العرف المتراضي عنه: أن الضرب على القفا عندنا في مصر عيب كبير، وفي ليبيا يسلم بعضهم على بعض بالضرب على القفا، وفي لبنان يقال: احلق له، بمعنى: مشيه، فانظر إلى الأعراف في لبنان، احلق له: أي مشيه، وهذا غير مستصاغ هنا، لكن التسليم في ليبيا بالقفا، وأنت لو ضربت صعيدياً بالقفا يمكن أن يقتلك، فالأعراف تختلف، والمسألة تدور مع العرف، والعرف يتحكم في كل مجتمع من المجتمعات، ولذلك نحن نقول: إن من السنة إذا دخل واحد أو اثنين مصريين إلى ليبيا يسلمون على بعض بالقفا، لكي لا يستوحش الليبيون منهم، أو يدخل مثلاً إلى أي بلدة، وزيهم السروال إلى الركب، والإزار والرداء فيرتدي زيهم حتى لا يكون مستوحشاً بينهم، وهذا من السنة، حتى لا يرتدي لبساً يكون من لبس الشهرة إن لم يكن الشرع نص عليه.

وهناك أعراف من السنة علق الحكم فيها على لفظ لم يحد شرعاً ولا لغة: كالحديث في الصحيح: أن هند رضي الله عنها وأرضاها جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح) فطلبت أن تأخذ المال لها ولأولادها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي: إذا كان المعروف في المدينة أو في مكة أن عشرة دنانير تكفيك وولدك، فإذا أخذت عشرة دنانير ونصف دينار، ظلمت وتعديت، فتأخذ بحد العرف، وهذا يستدل به للنساء المظلومات في بيوتهن، فالزوج الشحيح الذي لا يعطي امرأته شيئاً لا بد لنا أن نفتي بأنه يجوز للمرأة أن تأتي وهو نائم، أو في حين غفلة فتأخذ من جيبه ما يكفيها وولدها بالمعروف، ونصرح لكل النساء بهذا، فلها أن تأخذ من زوجها الذي يمسك دون أن يعرف، بشرط أن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف، فإن كانت في حيٍّ مرفهٍ فلا تأتي وتقول: إنه يكفيني كل يوم مائة جنيه أنا وولدي بالمعروف، فإنها بهذا ستخرب بيته بسرعة، والمفروض أن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف.

أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيح: قال ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير) كان هذا بعرف البلد عندهم في المدينة، والعلماء عمموا المسألة، وقالوا: صاعاً من طعام أهل البلد، فلو كان غالب أهل البلد طعامهم الأرز، فيخرج الأرز.

أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحيا مواتاً فهي له) إحياء الموات حده العرف، فيمكن أن يزرع شجرة ويكون قد أحيا مواتاً، أو يجعلها صالحة للزراعة، أو ينبت فيها ثمراً، ويكون هذا إحياء موات، فالعرف هو المتحكم في ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>