للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تخصيص الكتاب بالكتاب]

القسم الأول: المخصص المنفصل من الكتاب، وهذا بالاتفاق، ودلالة العام قطعية عند الجمهور، أما الأحناف فيرون أن دلالة العام ظنية وليست قطعية، وإنما الخلاف هل الكتاب يخصص بالسنة أم لا؟ نقول: الراجح من أقوال أهل العلم: أن الكتاب يخصص بالسنة، وكذلك يخصص بالقياس وبالإجماع.

مثال ذلك: قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:٢٢٨].

المطلقة التي طلقها زوجها على أنواع: مطلقة تحيض، ومطلقة لا تحيض وتسمى يائسة، وصغيرة لا تحيض، قال الله تعالى في النوع الثاني: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق:٤]، أما المرأة التي تحيض فعدتها {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} والقرء فيه خلاف فقهي شديد بين العلماء؛ لأن القرء من الأضداد، فيأتي بمعنى الطهر، ويأتي بمعنى الحيض، فالمالكية والشافعية يرون أنه الطهر، ولغة القوة معهم، وشرعاً القوة مع الأحناف والحنابلة بأن القرء معناه الحيض، وهذا ورد في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فاعتدي أقرائك) فجعل اللفظ المبين للقرء هو الحيض.

فقوله: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} يعني: ثلاث حيضات هي عدة المرأة، أما التي لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر بنص الآية.

فقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} [البقرة:٢٢٨] هذا لفظ عام، وقد جاءت أدلة تخصص هذا اللفظ العام، فمثلاً: الحامل على الراجح من الأقوال أن عدتها تنقضي بوضع الحمل؛ لحديث سبيعة الأسلمية، ولقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:٤].

إذاً: المرأة الحامل تعتبر حكمها خاص من الحكم العام في المطلقات، وحكمها أنها إذا وضعت الحمل ولو بعد يوم من الطلاق لها أن تتزوج؛ لأن عدتها قد انقضت.

أيضاً: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:٤٩]، أي: أن حكم المطلقة المعقود عليها قبل أن يدخل بها زوجها مخصوص من حكم المطلقات العام، ويمكن أن يعقد عليها آخر بعد ساعة.

إذاً: الحكم العام في المطلقات أن عدتهن ثلاثة قروء، لكن خصصنا من ذلك أولات الأحمال بأن يضعن حملهن، وأيضاً المعقود عليها قبل أن يدخل بها ليس لها عدة.

مثال آخر: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:٤] ما الحكم هنا في الذي يقذف امرأة ويقول: هذه المرأة زانية؟ نقول: يجلد ثمانين جلدة، فهذا على العموم، لكن جاءنا دليل منفصل قد خصص الزوج من هذا العام، وهذا الدليل المنفصل هو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ} [النور:٦] يعني: لا يجلد ثمانين جلدة، لكن يلاعن، فهذا أيضاً حكم مخصوص من قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:٤] يعني: إلا الزوج إذا قذف زوجته.

ودليل التخصيص جاء متأخراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ هلال بن أمية: (البينة أو حد في ظهرك) فنزل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:٦]، فخصص بذلك أزواجهم.

مثال آخر أيضاً: قال الله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:٢٢١].

قوله: (المشركات) لفظ يعم المجوسية والهندوسية والروسية والنصرانية واليهودية، فكل هؤلاء مشركات، فالعموم يؤخذ من قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة:٢٢١]، يعني: كل مشركة لا يجوز لك أن تنكحها، وهذا عام، ثم جاءنا دليل آخر منفصل خصص عموم النهي، وهو قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:٥]، فقوله: ((أوتوا الكتاب)) يعني: من اليهود والنصارى، فهنا خصص النصرانيات واليهوديات على أنهن من أهل الكتاب، والله جل وعلا بين لنا أن المحصنة من أهل الكتاب تحل لنا، فهذا أيضاً تخصيص لهذا العموم.

<<  <  ج: ص:  >  >>