للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الجمع بين نفي العدوى والفرار من المرض]

مثال الجمع: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا عدوى ولا طيرة) فهنا نفى النبي صلى الله عليه وسلم العدوى والتشاؤم.

وجاءنا حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري أنه قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، لماذا تفر من المجذوم؟ حتى لا يعديك.

فالظاهر هو التعارض، فكيف نجمع؟ قال العلماء: ننظر إلى الجمع وهو أول الدرجات، وقد اختلفت مشاربهم في الجمع أيضاً، فالجمهور يقولون: (لا عدوى) أي: لا عدوى تمرض بذاتها، وعضدوا هذا الجمع بأن الواقع يشهد بذلك، فهناك أمراض غير معدية.

والجمع الثاني: وهذا الذي أميل إليه قلباً، وهو ما جمعه الحافظ ابن حجر فقال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى)، على العموم، فلا توجد عدوى بحال من الأحوال، فهو نفي عام.

أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فمؤول: (لا عدوى) هذا محكم، والثاني محتمل، والمحكم يقدم على المحتمل، فقوله: (لا عدوى) يعني: لا عدوى تمرض بذاتها ولا هي سبب، أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم) فمن باب سد الذرائع.

فالجمع بينهما نقول: فر من المجذوم سداً للذريعة؛ لأن الرجل الصحيح إذا جلس مع المريض وجاءه مرض الجذام، فسيقول: هذا المريض أعداني، وأيضاً: قد يقع في قلبه ظن الجاهلية بأن العدوى تمرض بذاتها، فهو ذريعة إلى أن يظن بالله ظن السوء، أو يظن في غير الله ما لا يكون إلا لله جل وعلا، فسد الذريعة وحسم المادة، وقال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، وهذا القول قوي جداً لأدلة: منها: ثبت بسند صحيح: أن سلمان الفارسي أخذ بيد مجذوم، فوضعها في الصحفة يأكل وقال: كل إيماناً بالله وتوكلاً عليه.

فرأى أن الأمر بقدر الله، وأنه لا عدوى تمرض ولا شيء يمرض، وإذا قدر الله المرض فإنه سيكون وإلا فلن يكون.

ومنها: ما جاء في الآثار الصحيحة أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن العدوى، فبين له أنه لا يعدي شيء شيئاً، فقال: يا رسول الله! ما بال الجمل الأجرب يدخل في الجمال فيجربها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أعدى الأول) إن قلت لكم بأنه أجرب الجمال، فمن الذي أعدى الأول؟ الله.

فسكت الرجل، وعلم أن المسألة قدر من الله جل وعلا، وهذا الجمع هو الصحيح بأن العدوى لا تمرض بذاتها، لكنها سبب لذريعة اعتقاد ظن الجاهلية، فنغلق هذا الباب، وأذكر أن شخصاً كان يصلي فيعطس، ومن بجانبه يعطس، بل في الحرم حدث ذلك، فقام ورجل آخر فقال: يا أخي! لم لا تصلي في بيتك بدل ما تعدينا وتمرضنا بهذه الطريقة وتضيع علينا صلاتنا؟ فالأمر هكذا سيكون ذريعة لكل إنسان ينظر إلى المريض نظرة ازدراء، أما إذا قلنا: بأنه لا عدوى عامة، قوّى الإنسان إيمانه وتوكله على الله جل وعلا.

<<  <  ج: ص:  >  >>