للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اختلاف العلماء في كون مطلق النهي يقتضي الفساد أم لا]

من المسائل التي تتعلق بالنهي: هل مطلق النهي يقتضي الفساد أم لا؟ ومعنى مطلق النهي يقتضي الفساد: أن العبادة إذا فُعلَتْ على غير وفق ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو جاءت على نهي، أو شيء حرمه النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبادة باطلة ولا يعتد بها، وإن كان ذلك في المعاملات فالعقد يكون باطلاً، ولا يملك المشتري السلعة، ولا يملك البائع الثمن، وللعلماء في المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: أن مطلق النهي يقتضي الفساد، ودليلهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقوله: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد) أي: باطل، وهذا على العموم، وهو ما رجحه القاضي أبو يعلى من الحنابلة وجمهرة من علماء الحنابلة، وهو قول أهل الظاهر.

القول الثاني: أن مطلق النهي لا يقتضي الفساد.

القول الثالث: التفصيل، وهو القول الصحيح الذي عليه جمهرة من أهل العلم من الشافعية والحنابلة وغيرهم، والتفصيل هو: أن المنهي عنه أنواع: منهي عن ذات الشيء، ومنهي عن وصف لازم لذات الشيء أو شرط فيه، ومنهي عن أمر خارج عنه.

وبالمثال يتضح المقال: فالنهي عن ذات الشيء مثل: النهي عن شرب الخمر، والنهي عن أكل لحوم الخنازير، والنهي عن مهر البغي -وهو: الأجرة التي تأخذها الزانية- والنهي عن ثمن الكلب، والنهي عن ثمن الدم، فكل ذلك منهي عنه لذات الشيء.

وأما المنهي عنه لوصف لازم للذات، مثال ذلك: الذهب بالذهب مع التفاضل، أو مع الجهل بالمساواة، هل هو نهي عن ذات الذهب أم لا؟ لا، ليس نهياً عن ذات الذهب، وإنما هو نهي عن وصف لازم وهي: الزيادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب ربا إلا يداً بيد، سواء بسواء، مثلاً بمثل، هاء بهاء).

مثال آخر: بيع العنب لمن يعصره خمراً، هذا نهي عن وصف لازم للذات، وكذلك النهي عن الصلاة بدون وضوء، فهذا نهي عن ترك شرط ملازم للذات، والنهي عن الصلاة مع عدم استقبال القبلة، قال تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:١٤٤] أي: شطر المسجد الحرام.

وأما مسألة النهي عن شيء خارج عنه، مثل: الوضوء بالماء المغصوب، فهو نهي عن الغصب، وضابط هذا: أن يكون المنهي عنه داخل الشيء وخارج الشيء، فمثلاً: الصلاة بالماء المغصوب، هل النهي هنا عن الغصب مختص بالوضوء، أو مختص بالصلاة؟

الجواب

أن هذا النهي في خارج الصلاة وداخلها، وكذلك النهي عن لبس الحرير داخل الصلاة وخارجها، فهذا ضابط يبين لنا أن هذا من المنهيات، الذي هو المنهي عنه لوصف لازم وليس للذات، فهو لأمر خارج عن الذات فلا يقتضي الفساد.

فالأول والثاني حكمهما أنهما: يقتضيان الفساد، فمن فعل المنهي عنه لوصف لازم للذات فيقتضي الفساد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: باطل، ومن باب أولى إن كان ارتكب ما نهي عنه لذاته أيضاً يقتضي البطلان ويقتضي الفساد، أما الذي لا يقتضي البطلان ولا الفساد إذا كان المنهي عنه داخل الشيء وخارجه، مثال ذلك: الصلاة في الأرض المغصوبة، هل هذا النهي في الصلاة وخارجها؟ وهل تبطل الصلاة في الأرض المغصوبة؟ ننظر في شروط الصلاة، هل هي متوفرة أم لا؟ وكذلك في أركانها، فنجد أنه أتى بالشروط والأركان على تمامها، فالصلاة إذاً صحيحة مع الإثم؛ لأنه صلى في أرض غصبها، والإثم منفك عن الصلاة، فهنا الجهة منفكة، فإذا كانت الجهة منفكة فيصح العمل مع الإثم، فإذا صلى في الأرض المغصوبة فصلاته صحيحة، لكن يشكل علينا عموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: باطل، وقوله: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد) أي: باطل، فالرد على هذا الإشكال أن نقول: هو صلى صلاة عليها أمرنا -بشروط وأركان صحيحة- فهذا العمل صحيح، وقد صلى على أرض مغصوبة ليست عليها أمرنا، فيأثم بذلك والجهة منفكة، فتكون الصلاة صحيحة؛ لأنها على ما أمر به الله ورسوله، ويكون الغصب غير صحيح، أي: أنه لا يمتلك هذه الأرض بالغصب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وهو عمل ليس عليه أمرنا، وكذلك الأمر في من غصب ماءً، أو سرق ماءً فتوضأ به وصلى، هل صلاته صحيحة أم باطله؟ نقول: الصحيح والراجح على خلاف بين العلماء: أن الصلاة صحيحة، ونحن هنا إنما نتكلم على الوضوء والصلاة لا على السرقة، فالنهي عام، سواء داخل الصلاة أو خارجها، سواء توضأ بهذا الماء أم بغيره، فإن كان النهي عن خارج أو داخل فالجهة منفكة، فنقول: الوضوء صحيح والصلاة صحيحة، لكنه بسرقة الماء يأثم، فتكون الصلاة صحيحة مع الإثم، هذا معنى هذه المسألة: هل مطلق النهي يقتضي الفساد أم لا؟ ونذكر بعض الأمثلة حتى تتضح هذه المسألة: مثال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، هل هذا النهي لذاته، أم لوصف لازم للذات، أم نهي عن شيء خارج عنه؟ الصحيح: أن النهي هنا لوصف لازم للذات، فهو ليس نهياً عن ذات الشيء، إذ ممكن أن يبيع بيعاً صحيحاً، لكن قد يغرر بالمشتري بجهالة ثمن، أو كيل، أو وزن.

مثال آخر: رجل لبس خاتماً من ذهب، ثم صلى صلاة العصر، فهل صلاته باطلة أم صحيحة؟ الصلاة صحيحة، وهو آثم بلبسه خاتم الذهب.

مثال آخر: صوم يوم العيدين، الأصل أن الصوم ليس منهياً عنه، ولكنه نهي عنه لذاته، وعلى ذلك يكون نهياً عن الصوم نفسه؛ لأن النهي فيه صريح، فينهى عن ذات صوم يوم العيدين.

مثال آخر: بيع حبل الحبل، أو بيع الحمل، فلو أن رجلاً اشترى ما في بطن البقرة، ولم يشترها هي، لم يجز ذلك؛ لوجود نهي عن وصف لازم للذات، وهو جهالة وغرر، وهذا هو الصحيح.

مثال آخر: بيع النجش، وهو: أن يزيد في ثمن السلعة لا ليشتريها وإنما ليغرر بالآخر حتى يشتريها بثمن مرتفع، فيكون نهياً خارجاً عن الذات.

ومثله الغش، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا) لكن لو تم البيع بغش، وتوفرت الأركان والشروط فالبيع صحيح، والنهي هنا خارج عن الذات فيصح البيع، لكن مع وجود الضرر في هذا البيع، فالإثم لا يرفع إلا بالتسامح.

<<  <  ج: ص:  >  >>