للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أمثلة الكراهة]

المثال الأول: مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يشرب قائماً، فقال له: (أتريد أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: يشرب معك من هو شر منه: الشيطان)، فهذه الصيغة ليس فيها التصريح بالتحريم، وإنما فيها النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً.

وأوضح من ذلك: (أنه أمر من شرب قائماً أن يستقيء) ويصرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم قائماً)، فالذين قالوا بالتحريم أولوه بتأويلين: التأويل الأول: أن هذه حالة خاصة بماء زمزم لشرفه, وهذا تأويل ضعيف.

التأويل الثاني -وهو وجيه-: أن النبي صلى الله عليه وسلم ازدحم عليه الناس، وقال للعباس: (لولا أن تتكالب عليكم الناس لنزحت معكم) , فشرب قائماً، فهذا التأويل قوي، لكن نقول: عندنا قرينة أقوى من هذه القرينة وهي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماص من شنٍ معلقة) أي: قربة ماء، فشرب منها النبي صلى الله عليه وسلم قائماً، وهذه قرينة قوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يأخذ القربة ثم يجلس ويشرب بلا عناء، لكن إذا شرب قائماً فإنه يبين أن هذا النهي الذي صدر منه ليس على التحريم لكنه على الكراهة.

وفائدته: أن يبين للناس أنه لا إثم على من شرب قائماً، فلذا النبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل مكروهاً لا محرماً ليشرع للناس, ولينقل شرع الله لهم.

ويتفرع على هذا: أن الذي يفعل المكروه لا إنكار عليه, لكن لابد أن يبين له أنه فعل مكروهاً واستهان به، وهو بهذا لا محالة سيقع في الحرام.

المثال الثاني: البول قائماً, قالت عائشة: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبول إلا كما تبول النساء)، أو قالت: (من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً فقد كذب)، وفيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يبول إلا جالساً، وقد نهى عن البول قائماً، وقد جاءتنا القرينة تصرف التحريم إلى الكراهة عند جمهور أهل العلم, وهي كما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) , ففعل النبي صلى الله عليه وسلم صرف النهي من التحريم إلى الكراهة.

لكن التحقيق في المسألة فقهياً: أن من يبول قائماً يحرم عليه ذلك إلا إذا أمن الرذاذ, فإذا لم يأمن فهو عليه حرام.

ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير, ثم قال: وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله) , أي: لا يستتر ويأمن من الرذاذ الذي يعود عليه، وهذا تأويل لبعض أهل العلم، وهو تأويل راجح ووجيه.

فالذي يبول قائماً ولا يحمي نفسه منه يحرم عليه أن يبول قائماً, وهذا هو الحاصل في كثير من المراحيض الموجودة في كثير من المساجد؛ فيحرم عليه البول قائماً في تحقيق هذه المسألة.

ويدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بال على الكناسة وهي رخوة لا يرتد منها رذاذ.

المثال الثالث: قضاء الحاجة مستدبر القبلة أو مستقبلها في المراحيض، أما في الخلاء فقولاً واحداً أنه يحرم ذلك؛ لحديث: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن سددوا وقاربوا)، فذهب أبو أيوب رضي الله عنه وأرضاه إلى الشام فوجد مراحيض مستقبلةً القبلة, قال: فكنا نستدير ونستغفر الله.

المقصود: أنهم في البنيان اختلفوا؛ فذهب إلى التحريم بعض الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم, لكن التحقيق في المسألة: أن ذلك يجوز إذا وجد في الصحراء ساتر، لحديث ابن عمر: أنه اتخذ من مؤخرة الرحل ساتراً له، ولما سئل عن ذلك قال: إنما ذلك في الصحراء.

والراوي أعلم بما روى.

المثال الرابع: الأكل من جميع نواحي الطبق؛ لأن النبي قال: (يا غلام! سم الله, وكل بيمينك, وكل مما يليك) , والأصل أن هذا الأمر ظاهره التحريم, لكن جاء في الحديث عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتتبع الدباء).

<<  <  ج: ص:  >  >>