للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شيئا غير الذي كان، وأنه يتغير في ذاته، فاعلم أنّ ما كان من الشعر مثل بيت بشّار:

[من الطويل]

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه «١»

وقول امرئ القيس: [من الطويل]

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي «٢»

وقول زياد: [من الطويل]

وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر، مهما يلق في البحر يغرق «٣»

كان له مزيّة على قول الفرزدق فيما ذكرنا، لأنك تجد في صدر بيت الفرزدق جملة تؤدّي معنى، وإن لم يكن معنى يصحّ أن يقال إنه معنى فلان، ولا تجد في صدر هذه الأبيات ما يصحّ أن يعد جملة تؤدّي معنى، فضلا عن أن تؤدّي معنى يقال إنه معنى فلان. ذاك لأن قوله: «كأن مثار النّقع» إلى: «وأسيافنا»، جزء واحد و «ليل تهاوى كواكبه» بجملته الجزء الذي ما لم تأت به لم تكن قد أتيت بكلام. وهكذا سبيل البيتين الآخرين. فقوله: «كأن قلوب الطّير رطبا ويابسا لدى وكرها»، جزء وقوله: «العناب والحشف البالي» الجزء الثاني وقوله: «وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا» جزء، وقوله: «لكالبحر، الجزء الثاني، وقوله: «مهما تلق في البحر يغرق»، وإن كان جملة مستأنفة ليس لها في الظاهر تعلّق بقوله: «لكالبحر»، فإنها لمّا كانت مبيّنة لحال هذا التشبيه، صارت كأنها متعلّقة بهذا التشبيه، وجرى مجرى أن تقول:

«لكالبحر في أنه لا يلقى فيه شيء إلّا غرق».


(١) البيت لبشار في ديوانه (١/ ٣١٨)، والمصباح (١٠٦)، ويروى (رءوسهم) بدلا من (رءوسنا)، وأسرار البلاغة (ص ١٧٤، ١٩٤، ١٩٥، ١٩٨)، والتبيان للطيبي (ص ٢٧٨)، ومثار النقع: الغبار الذي أثاره المتحاربون، وتهاوى: تتساقط. ويرى عبد القاهر أن الشاعر جعل الكواكب تهاوى فأتم التشبيه وعبّر عن هيئة السيوف وقد سلت من الأغماد وهي تعلو وترسب وتجيء وتذهب ...
ويرى أنه نظم هذه الدقائق في نفسه ثم أحضرت صورها بلفظة واحدة ونبّه عليها بأحسن التنبيه وأكمله بكلمة وهي قوله (تهاوى) لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها وكان لها في تهاويها تواقع وتداخل ثم إنها بالتهاوي تستطيل أشكالها فأما إذا لم تزل عن أماكنها فهي على صورة الاستدارة. (أسرار البلاغة).
(٢) سبق تخريجه انظر (ص ٧٩).
(٣) سبق في (ص ٧٩) فانظره.

<<  <   >  >>