للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أحاديث النهي عن استقبال واستدبار القبلة ببول أو غائط]

مثال آخر: أحاديث النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط، فهي تدع العقل يتحير فيها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروها).

والحديث يحمل على العموم سواء كان ذلك في الصحراء أو في البنيان، ويعضد هذا العموم فهم الراوي وعمله، والقاعدة عند المحدثين: أن الراوي أعلم بما روى، والراوي هنا هو أبو أيوب رضي الله عنه، حيث قال: فذهبنا إلى الشام فوجدنا المراحيض قد بينت مستقبلة بيت المقدس مستدبرة القبلة، فكنا ننحرف ونستغفر الله.

ومعنى ذلك: أن أبا أيوب يرى أن ذلك على العموم، سواء في الكنف أو في الصحاري، والحديث يدل على التحريم.

فانظروا إلى عقول الصحابة، وكيف يتعاملون مع الأحاديث، فهم لم يردوها بسوء أدب مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم تجعلهم العاطفة يصححون حديثاً موضوعاً، فـ ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه (رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة).

فهذا تصريح من ابن عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد فعل شيئاً ونهى عنه! فيكون قد عارض فعله قوله.

وهنا ننظر في هذا، فإما أن نرد هذا أو نرد هذا، أو نجمع بين الأدلة، ولا مجال للعقل هنا أن يرد الحديث، فننظر كيف أن ابن عمر يتعامل مع هذه الأحاديث، وهو قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه الاستقبال والاستدبار، فقام في الصحراء وأراد أن يقضي حاجته، فأخذ راحلته فجعلها ساتراً له مقابلة للقبلة، ثم قعد يقضي حاجته، فجاء نافع فأنكر عليه فقال: يا ابن عمر! أما علمت أن رسول الله قد نهى عن الاستقبال والاستدبار للقبلة في قضاء الحاجة.

فقال ابن عمر: هذا في الصحراء لا في البنيان.

وكأن ابن عمر يقول: أنت ما فهمت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله، فالنهي في الحديث إذا لم يكن بينك وبين القبلة ساتر، وأما إذا كان هناك ساتر بينك وبين القبلة فلا يحرم.

فانظروا إلى ابن عمر كيف جمع بين الروايتين، فالمرء ربما إذا نظر إلى الروايتين فسيقول: لا بد أن أرد حديثاً من الحديثين، لكن الصحيح والراجح: أن العقل مجاله هنا أن يجيب عن هذه الإشكالات، وأن يزيل الغمة التي تحدث بين الأدلة التي ظاهرها التعارض.

وعند ذلك اختلف الفقهاء اختلافاً شديداً في هذه المسألة، والغرض المقصود هنا أن ابن عمر لم يضرب الحديث بالحديث، لكن قال: هذا الحديث له موضع وذاك الحديث له موضع آخر، وكأنه قال: العموم الذي رواه أبو أيوب مخصوص بالبنيان.

لذا: فلو أن رجلاً دخل الحمام في بيته، وهذه الحمامات أو المراحيض قد تكون مستقبلة للقبلة أو مستدبرة لها، فيجوز له قضاء الحاجة ولا إثم عليه؛ لأن هناك ما يحجبه عن القبلة وهو: البنيان، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما ارتقى ابن عمر فرآه يقضي حاجته مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>