للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أسباب الوضع في الحديث]

من أسباب الوضع: القصاصون وانتشار القصص والوعظ، وانظروا إلى ما نحن فيه وما كانوا فيه، فقد كان القصاصون في العصور القديمة يلتف حولهم العوام فقط، ولا يلتفت حولهم أهل العلم وطلبة العلم لا يلتفون؛ لأنهم لا يجدون عندهم ما يشفي صدورهم ويروح قلوبهم، وأما العوام الذين لم يستضيئوا بنور العلم، والذين يميلون مع كل ريح، فكانوا يجلسون في مجالس القصاصين، وأما مجالس أهل العلم ومجالس التحديث فكانت تكتظ بطلبة العلم، وما كانوا يعبئون ولا يرون للقصاص مقداراً، فكانت مجالس القصاصين هي مجالس العوام، وهي أرذل المجالس، فالقصاصون كان العوام يلتفون حولهم ويعجبون بهم، وتراهم يصرخون على الكلمات الطيبة، فكان القصاصون يؤثرون على العامة فيغربون في القصص، ويختلقون الأحاديث، ومن ذلك ما اشتهر جداً عن الإمام أحمد والإمام يحيى بن معين عندما جلسا في مجلس قاص يقص ويأتي بالطرائف، فقال: خلق الله ملكاً له مائة رأس، وكل رأس يسبح كذا، وقال: حدثني بذلك أحمد بن حنبل ويحيى بن معين! فينظر أحمد بن حنبل إلى يحيى بن معين وقال له: أحدثته بذلك؟ قال: والله ما حدثته، وأنت هل حدثته؟ قال: والله ما حدثته، فقام أحمد بعد ما انتهى المجلس وذهب إليه وقال: يا هذا! هذا الحديث الذي ذكرته آنفاً من حدثك به؟ قال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قال: هل تعرف أحمد بن حنبل ويحيى بن معين؟ قال: ومن في الدنيا لا يعرف أحمد بن حنبل ويحيى بن معين؟! فقال: أنا أحمد بن حنبل، وهذا يحيى بن معين! فتدبر أمره ثم قال: ما رأيت أسفه منكما! ما في الدنيا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلا أنتما، يوجد ألف رجل اسمه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين!! ومن القصص أن عامر الشعبي -وهو ثقة ثبت من كبار التابعين- كان في مجلس الوعظ والتذكير يصلي، وقام القاص يقول: إن الله خلق صوراً فسينفخ فيه نفخة الصعق، وخلق صوراً آخر ينفخ فيه نفخة القيامة، فسمعه الشعبي وهو يصلي قال: فخففت صلاتي ثم قمت إليه وقلت: يا هذا اتق الله ربك، كيف تحدث أن الله خلق صورين، من الذي حدثك؟ قال: حدثني فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هذا حديث مختلق عن رسول الله، فخلع القاص نعله وسبه وقال: تعارضني وقد حدثني بالحديث فلان، وضربه بالنعل في رأسه، قال الشعبي: فما دريت إلا وكل المجلس قد خلعوا نعالهم ويضربونني، فما تركوني حتى قلت: إن لله ثلاثين صوراً سينفخ في كل صور نفخة، فتركوني عند ذلك! وأيضاً كان بعض القصاصين يحدث عن رسول الله ويقول: حدثني الأعمش، وقد كان صيت الأعمش مشهوراً فهو أمير المؤمنين في الحديث، قال: حدثني الأعمش وحدثني الأعمش والأحاديث مختلقة، فـ الأعمش نظر إليه يحدث الناس وهم ينسجمون معه، فقام أمامهم فخلع ثيابه وأخذ ينتف شعر إبطه، فقام القاص وقال: مالي أراك سيئ الأدب في مجلس يحدث فيه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وتفعل هذا الذي تفعله؟! قال: اسكت فإني في خير وأنت في شر، أو قال: ما أنا فيه خير مما أنت فيه وتأويل ذلك: أن نتف الإبط من السنة، وما أنت فيه هو كذب على رسول الله.

وبعض القصاصين كانوا أصحاب تجارة يريدون المال، فرجل كان حلوانياً، والحلواني بضاعته لا تروج إلا إذا نسب بعض الأقوال إلى رسول الله، وهذه دلالة على أن الناس يسارعون إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان دائماً ينظر في الناس ومن لم يشتر منه ويقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الهريسة تشد الظهر)، فكان كل من يسمعه يشتري منه الهريسة، فكانوا يضعون الأحاديث وينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أجل المال.

وهناك أسباب أخرى كأن يغتاظ رجل من رجل آخر فتراه يضع عليه حديث كما فعل هذا الإسكافي، فقد جاءه ابنه ذات مرة يبكي فقال: ما يبكيك؟! قال: ضربني معلمي، قال: والله لأؤدبنه، ثم قال: حدثني فلان عن فلان عن فلان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شراركم معلمو صبيانكم).

ومن الأسباب: الخلافات السياسية، والمآرب الشخصية، والتعصب المذهبي، والتعصب للنسب، والتعصب للجهة، فمثلاً كانوا يقولون: العرب أفضل الناس، فإذا دخل العجم في الإسلام فإن العرب يريدون إظهار شرفهم، فيضع بعضهم حديثاً في فضائل العرب، حتى أن بعضهم قال: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلام أهل النار البخارية، وأبغض الكلام إلى الله الفارسية، وكلام أهل الجنة العربية).

ومنهم من يضع ذلك على التعصب، فيرى رجل أن إمامه يقول: رفع اليدين عند الركوع لم ترد بها سنة، والآخر يقول: وردت بها سنة، فيضع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن ينصر مذهب الأحناف، وفي هذه العصور المتأخرة ظهر مثل هؤلاء، فبعضهم كان يضعف الحديث الصحيح من أجل مذهبه، ويصحح الحديث الضعيف من أجل مذهبه، بل ارتقى فوق ذلك وكان يسب الصحابة من أجل الانتصار لمذهبه، كما فعل الكوثري، والآن بعض الغماريين يفعلون ذلك، فتراهم يتشددون من أجل مذهب الأحناف فيضعفون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل ويردون بعض أحاديث عن أبي هريرة وقالوا: أبو هريرة ليس بفقيه! ومن القصص أنها حصلت مشاحنة بين شافعي وحنفي، فقام الحنفي فقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يخرج في هذه الأمة رجل هو سراج أمتي يكنى بـ أبي حنيفة، ويخرج على هذه الأمة رجل اسمه محمد بن إدريس هو أضر على هذه الأمة من إبليس.

وآخر يرى أن رفع اليدين في الركوع ليس بسنة، فقال: حدثني فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رفع يديه في الركوع فلا صلاة له).

ومن أسباب الوضع أيضاً عداوة الإسلام وأهله، كما فعل عبد الله بن سبأ وغيره من الذين دخلوا فيه عنوة وجبراً كالمنافقين، فكانوا يتسترون بالنفاق ويحقدون على أهل الإسلام، فأرادوا أن يدمروا عقائد المسلمين بهذه الأحاديث المختلقة الموضوعة، وبعضهم وضع على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، فلما أرادوا قتله بعد ما علموا أنه وضع الحديث قال: كيف تفعلون بأربعة ألاف حديث قد وضعتها على النبي صلى الله عليه وسلم أحللت بها الحرام وحرمت بها الحلال؟! فقيل له: الجهابذة ينقون هذه الأحاديث، والحمد لله الذي نصب لنا من يحافظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن أسباب الوضع: مجاملة السلاطين، فترى كثيراً من الرواة كانوا يمنعون من الدخول على السلاطين، ولا يقبلون هدايا وعطايا السلاطين؛ لأن السلطان قد تحملك مجاملته أن تقول ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا كان الغرض في ذلك العطايا والهبات، وقد اشتهر في وقت الخلافة الأموية والخلافة العباسية أن الشعراء يدخلون فيمدحون الوالي، والمدحة لها ثمن كبير، والمحدثون الذين لا دين لهم والذين كان يجعلون الدين قنطرة لأمر الدنيا لا للآخرة، وباعوا دينهم بعرض رخيص وثمن بخس دراهم معدودة من أمر الدنيا؛ كانوا يدخلون على السلاطين فيأخذون المال بعدما يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهر قصة في ذلك قصة غياث بن إبراهيم عندما دخل على المهدي العباسي، فوجده يلعب بالحمام، واللعب بالحمام كان الشافعي يرى أنه يخدش المروءة، ومن خدشت مروءته فلا تقبل شهادته، ولا تؤخذ روايته، ولا يؤخذ عنه والعلم، فدخل عليه غياث بن إبراهيم فوجده يلعب بالحمام، فأراد أن يطيب قلبه فقال: حدثني فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل أو جناح)، ومعنى: (لا سبق) أي: لا عطية ولا مال: (لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر) فزاد (أو جناح) مجاملة لمن يلعب بالحمام، فـ المهدي كتب له بالمكافئة والعطية، فبعدما أخذ العطية وخرج من عنده قال: أشهد الله أن قفاك قفا كذاب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا الحديث، ثم قال: أنا حملته على الكذب على رسول الله، فأمر بالحمام فذبح جميعاً؛ من أجل الحفاظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذه أسباب الوضع في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تصدى لها الجهابذة، فغربلوا الأحاديث وبينوا لنا الصحيح والحسن والضعيف والموضوع.

وهنا مسألة وهي: هل للمعاصرين أن يجتهدوا في حديث النبي فيصححوا أو يضعفوا ما لم يتكلم عليه المتقدمون؟ مذهب ابن الصلاح ووافقه كثير من المحدثين أن الاجتهاد قد أغلق بابه في العصر الأول بعد البيهقي والدارقطني ونحوهما، فإذا قال الدارقطني: ضعيف فهو ضعيف، وإذا قال الدارقطني: صحيح فهو صحيح، وليس لك أن تبحث، والواقع يخالف ذلك، فـ ابن حجر والذهبي والنووي والسبكي وابن السبكي وابن عبد الهادي الحنبلي هؤلاء كلهم صححوا وضعفوا الأحاديث، وفي عصر ابن الصلاح نفسه ابن القطان والدمياطي وغيرهما كانوا يصححون ويضعفون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالآلات وبالشروط التي اشترطها العلماء، فالاجتهاد باق إلى آخر يوم تكون فيه الدنيا، فالاجتهاد باق في هذه الأمة، وهو نبراس هذه الأمة، وهو ميزة من مميزات هذه الأمة، وسنطلع على اجتهاد الأئمة ونعرف كيف نظروا في حديث النبي فقالوا: هذا حديث موضوع، وكيف عرفوا ذلك، وما هي الشروط وما هي الأدوات والآلات التي جعل

<<  <  ج: ص:  >  >>