للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفرق بين الشرك في النذر والمعصية به]

المثال الثاني: النذر عبادة، ومعروف مشهور بين العامة أنهم يقولون: نذرت للسيدة زينب شمعاً لنجاح ابنتي، فهل هذا يجوز أو لا؟ نرجع للقاعدة قبل أن نقول: يجوز أو لا يجوز، ونضبط المسألة أولاً ونقول: هل النذر عبادة أو لا؟

الجواب

النذر عبادة، الدليل على ذلك قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:٧] ووجه الدلالة سنعرفه من خلال بيان تعريف العبادة، والعبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.

وبعد هذا التعريف نقول: إن الله تعالى إذا مدح شيئاً فقد أحبه، وسياق آية النذر سياق مدح؛ لأن الله إذا مدح عباده بفعل شيء فقد دل ذلك على أن هذا الشيء عبادة؛ لأن الله يحبه وقد مدحه، فالله لا يمدح إلا ما يحب، وهذا هو وجه الدلالة استنباطاً.

أما التأصيل الصريح فهو في قول الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:٢٦]، ووجه الدلالة في ذلك هو إقرار الله لها على النذر، فدل ذلك على أنه عبادة.

وأيضاً في الآية الأخرى قال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:٣٥]، وهي نذرت هنا للمسجد، وهذا فيه دلالة على أن النذر عبادة، فإذاً: النذر عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك.

مثال آخر: رجل قال: إن ابني مريض فإن شفي الله ابني فسأتصدق بألف درهم.

والثاني قال: إن ابني إن نجح لأذبحن عند البدوي ذبيحة وأفرقها على الفقراء.

والثالث قال: إن أتى أبي ورأيته بعيني، فامرأتي طالق.

فالصحيح في ذلك أن نقول: إن النذر الأول توحيد؛ لأنه عبادة صرفه لله جل في علاه.

والنذر الثاني فيه توحيد وفيه شرك، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن الذبح في مكان يعبد فيه غير الله جل في علاه منهي عنه، ولما رأى رجلاً يذبح إبلاً ببوانة نهاه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأنه قد كان فيها صنم يعبد، وإنما نهاه لأنه ذريعة للشرك ولا يقال له: شرك؛ لأنه لم يصرف عبادة لغير الله جل في علاه، بل هو نذر أن يذبح لله، فإذا نذر أن يذبح لله فهو توحيد لله وليس شركاً، لكنه وقع في منهي عنه وهو أنه ذبح في مكان يعبد فيه غير الله جل في علاه.

وأما الثالث فهو نذر ينزل منزلة اليمين المعلقة، على قول الجمهور، وأما على قول شيخ الإسلام ابن تيمية فينظر في نيته: إن كانت نيته تهديداً فلا تطلق زوجته، وإن كانت نيته الطلاق فتطلق امرأته.

ختاماً لهذه المسألة نقول: إن العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.

قال ابن القيم: وتدور رحى العبادة على خمسة عشر أمراً، وذلك أن المكلف يتكون من لسان وقلب وجوارح، وأحكام الشرع التكليفية خمسة: واجب، ومستحب، ومباح، ومكروه، ومحرم.

فيتعلق بكل عضو من الأعضاء سواء القلب أو اللسان أو الجوارح خمسة أحكام.

فالحاصل من ضرب ثلاثة أعضاء في خمسة أحكام يساوي خمسة عشر أمراً.

فيجب على القلب التصديق، وهو قول القلب، ويجب عليه التوكل والإنابة والخوف والرجاء فكل ذلك من واجبات القلب، أما واجب اللسان فهو قول لا إله إلا الله، فلن يدخل أحد الإسلام إلا بقوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وأما واجبات الجوارح فالصلاة والجهاد وغيرها، فالثلاثة الأعضاء لكل عضو منها خمسة أحكام، فتكون الجملة خمسة عشر أمراً كما قال الإمام ابن القيم.

وللعبادة ركنان: غاية الذل مع غاية المحبة.

وشروط العبادة: الإخلاص ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم.

والعبادة عبادتان: عبادة عامة وعبادة خاصة.

أو: عبادة القهر: وهي عبادة الربوبية.

وعبادة الاختيار: وهي عبادة الإلهية، إذاً العبادة عبادتان: عبادة عامة ويدخل فيها المؤمن والكافر والمشرك, وعبادة خاصة وهي لا تكون إلا من المؤمن وهي العبادة الاختيارية.

فعبادة القهر هي عبادة الربوبية التي قال الله عنها: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:٩٣] فسواء كنت طويلاً أو قصيراً، أو أبيض أو أسمر، إذا أراد الله أن يقدر عليك المرض فلا تستطيع أن ترد هذا القدر، بل أنت فيه عبد لله رغم أنفك، قال الله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:٨٣]، فهذه هي عبادة القهر.

والعبادة الثانية خاصة بالمؤمنين: وهي عبادة الإلهية التي قال الله فيها: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣]، فهل كل الناس عبدوا الله جل في علاه؟ لا، بل منهم من عبد ومنهم من لم يعبد الله جل في علاه، فهذه هي العبادة الاختيارية.

<<  <  ج: ص:  >  >>