للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عبادة الله بالخوف والرجاء لا بالمحبة وحدها]

قال رحمه الله تعالى: [واعلم أنه ما عبد الله بمثل الخوف من الله وطريق الخوف والحذر، والشفقات والحياء من الله تبارك وتعالى].

هذا جزء من الأحوال القلبية التي تتم بها العبادة وهي كما تعلمون تبدأ بمحبة الله عز وجل والرجاء والخوف، وهنا الشيخ أشار إلى الخوف ثم الرجاء والذي عبر عنه بالشفقات والحياء من الله عز وجل؛ لأن ذلك يؤدي إلى الخوف والرجاء.

قال رحمه الله تعالى: [واحذر أن تجلس مع من يدعو إلى الشوق والمحبة، ومن يخلو مع النساء وطريق المذهب؛ فإن هؤلاء كلهم في الضلالة].

يشير هنا إلى طوائف من المتصوفة أو إلى مناهج المتصوفة وبعض مصطلحاتهم التي ضلوا بها بعدما ذكر أن من أصول العبادة الخوف والرجاء، فأشار إلى الأصول التي انحرف بها الصوفية في جانب العبادة، حيث وقفت الصوفية عند مصطلح الشوق والمحبة، ولا يقصد بذلك الرجاء والمحبة المعروفة عند أهل السنة والجماعة في الكتاب والسنة، إنما يعني أكثر الصوفية بالشوق عبادة الله عز وجل بالمحبة دون الرجاء والخوف، ويبالغون في الشوق إلى حد يخرجهم عن سمت العبادة الصحيحة والمستقيمة، بحيث إن المتصوف إذا تعبد بالشوق يتهور ويقيس محبة الله عز وجل بمحبة العباد، فيتشوق للخالق كما يتشوق المخلوق للمخلوق، فيقع في عبادته شيء من الانحراف والعدول عن منهج الكتاب والسنة والمبالغة في ذلك، وعدم المبالاة بما شرعه الله عز وجل من ضرورة الخوف والرجاء.

فالمؤلف بهذا يشير إلى منهج الصوفية البدعية الطرقية الذين يقولون: لا نعبد الله رجاء جنته ولا خوف ناره إنما نعبده محبة له.

فهم إذاً يعولون على المحبة والشوق ويبالغون، فيها ويعرضون عن جوانب العبادة الأخرى التي لا تتكامل العبادة إلا بها خاصة الخوف والرجاء.

وأشار أيضاً إلى جانب آخر من انحرافاتهم، وهم أولئك الذين يتعبدون بالخلوة أو يستجيزون الخلوة مع النساء، وهذه الخصلة موجودة عند بعض النساك والعباد الجهلة أو الذين داخلهم الزنادقة، فيتساهلون في هذا الأمر فيسلكون مسلك الرهبان الذين يتساهلون في هذا الأمر فيختلطون في دور العبادة وفي أماكن التعبد التي يتخذونها ويظنون أنهم على الطريق الأسلم وأنهم حينما يفعلون ذلك برآء مما يحدث عند الناس من غوائل الاختلاط.

وطريق المذهب يبدو لي أن المقصود به الطرق الصوفية التي بدأت أصولها في عهد البربهاري لكنها ليست على نحو ما حدث في القرن الثالث وما بعده، إنما بدأ العباد يسلكون مسالك الاتجاهات في بذر الطرق، فلعله يشير إلى هذا في قوله: (وطريق المذهب)، أي: مناهج العباد التي يتخذونها مدارس ويكون لهم في ذلك أتباع يخرجون بها عن سمت أهل السنة والجماعة.

قال: (فإن هؤلاء) أي: أصناف هؤلاء الصوفية (كلهم على الضلالة).

وممكن أن ينتحل صاحب المذهب الباطل المحبة، بمعنى أن يتكلف فيدعي أنه لا يعبد إلا بالمحبة ويلغي الشرائع، ويلغي الخوف والرجاء، فهذا يرد عند مذاهب الضلال، أما في ميزان الحق فلا يمكن أن تكون المحبة الخالصة لله تعالى إلا بالعبادة، والعبادة لا تكون إلا مع الخوف والرجاء، وهذا بدهي! لكنهم لا يعبدون الله حق عبادته، بل يعبدونه بطرائق الوثنيين والفلاسفة التي تنزع إلى الجانب العاطفي دون تصور كمال الله عز وجل، ولذلك لا يتصورون لله كمالاً على حقيقته، فيعبدونه عبادة عاطفية يقتصرون فيها على المحبة تبعاً للفلاسفة كما هو معروف.

<<  <  ج: ص:  >  >>