للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ضرورة التفريق بين العقيدة وأصول المنهج وبين الوسائل والأدوات والأمور الاجتهادية]

خامساً: بمناسبة الحديث أو الكلام عن نهج أهل السنة والجماعة قد يقع كثير من الشباب في خطأ في الفهم أو الحكم أو الموقف تجاه بعض الأمور، حينما لا يفرق بين العقيدة والأصول والمناهج، وبين الوسائل والأدوات والأمور الاجتهادية.

بعض الناس يجعل وسائل الدعوة توقيفية، أو وسائل الحياة الأخرى، فيظن أنه لا بد أن يدخل في السنة حتى الأساليب الاجتهادية أو العلمية أو العملية في تلقي الدين ونشره، أو في الدعوة، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الجهاد، أو حتى في العمل والسلوك الفردي، وهذا خطأ ربما يترتب عليه الوقوع في التشدد في الدين أو في نهج الخوارج، كما حدث من الخوارج الأولين ومن جاء بعدهم في العصور الماضية؛ فلذلك يجب أن يفرق الشباب والدعاة بين الأمور المتعلقة بالعقيدة والأصول والمناهج العامة من ناحية، وبين الوسائل والأمور الاجتهادية من ناحية أخرى، سواء وسائل تحصيل العلم، أو وسائل نشر العلم، أو وسائل الدعوة، أو حتى وسائل الحياة التي تخدم بها دنيا الناس ودينهم، كل الوسائل قابلة للاجتهاد، وكل الوسائل تحكمها ظروف الزمان والمكان، وتحكمها مقدرات المسلمين وما لديهم من إمكانات معنوية وحسية، مادية وعلمية، لكن الأصول والقواعد هي التي لا بد أن نقف عندها ولا نتعداها؛ لأنها السبيل والصراط المستقيم؛ لأنها نهج المؤمنين؛ ولأنها السنة؛ ولأنها هي التي عليها الجماعة، جماعة المسلمين.

أما مسألة الوسائل من: كون الدعوة تقوم على جماعات، أو على أفراد، أو بمؤسسات، أو بدراسات علمية أو فكرية أو منهجية، أو بأي وسيلة من الوسائل الأخرى، فإن مسألة الوسائل متاحة ومباحة، والله سبحانه وتعالى جعل الناس على مواهب وقدرات، وفاوت بين قدراتهم ومواهبهم، وجعل حاجة المسلمين تنبني على ما لديهم من وسائل وأدوات، فلذلك ينبغي أن تتسع آفاق بعض الدعاة هداهم الله الذين يحجرون على المسلمين في الوسائل.

ولأضرب لكم مثلاً سهلاً في تحصيل العلم، وهو من أهم الأمور وأحسنها وغيره أسهل منه في تحصيل العلم الشرعي وتلقيه: كان الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده بقليل يحذرون من كتابة الحديث، أليس كذلك؟ بل كان هذا هو النهج الذي كانوا عليه، كانوا يعتبرون كتابة الحديث وسيلة لا تصلح، لماذا؟ لأنهم كانوا حافظين للسنة، يعملون بها، يميزون بين السنة والقرآن والنصوص هذه وتلك؛ ولأن السنة كانت حية في الاعتقاد والعمل والتطبيق؛ ولأن الوضع والكذب في الحديث لم يرد في عهد الصحابة، ولأن الافتراق لم يوجد، والأهواء لم توجد بينهم، فكانوا لا يرون هناك حاجة لكتابة الحديث، ثم جاء بعد ذلك بعهد، بل كان بعضهم يتورع عن التحديث، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن ينقلوا عنه الدين، كان يتورع عن التحديث خوفاً من أمور يعرفها أهل الاختصاص، ثم بعد ذلك بدءوا يحدثون.

ثم بعد ظهور الافتراق، وبعد ظهور الوضع والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ظهور الأهواء، وبعد ادعاء طائفة أنه يكفيها القرآن، وبعد اتهام الصحابة بالنسيان والخطأ والوهم إلى آخره من دعاوى وشبهات المبطلين التي قد تلبس على المسلمين، بعد ذلك سمح أهل العلم بكتابة الحديث، وبدءوا يكتبون قليلاً من الحديث، ثم جاءت فترة فصارت كتابة الحديث هي السمة، ثم جاءت فترة فتوجه أهل السنة والجماعة إلى ضرورة كتابة الحديث وتمييز الصحيح من الضعيف، فكتبت الصحاح والمسانيد والسنن، وحفظ الله بها الدين.

إذاً: هذا تغير في الوسائل، حتى في طريقة تحصيل العلم على العالم، نجد أنها تدرجت، تطورت من طور إلى طور، حتى وصلت في بعض العهود الزاهرة إلى ما يشبه وجود الوسائل عندنا الآن، بل أتقن من الوسائل الموجودة عندنا الآن، فكانوا يضبطون الدروس من يحضر ومن يتخلف، ومتى حضر فلان في أي ساعة؟ ويضبطون عن العالم ما يكتب، وكان العالم إذا كثر طلابه يوزعهم إلى مجموعات، ويكون هناك من يبلغ العلم من مجموعة إلى مجموعة، تنظيم دقيق، كل ثلاثين يرأسهم واحد، ثم كل ثلاثين يرأسهم واحد، ثم هؤلاء المجموعة النقباء يجتمعون بالشيخ ويبلغون عنه، كل هذا من أمور الوسائل والتنظيم التي عمل بها أئمة الدين.

إذاً: فالوسائل يجب أن يعمل بها المسلمون بقدر اجتهادهم وبقدر أحوالهم وبقدر حاجتهم، فالذين يحجرون على الصحوة أو على المسلمين استعمال الوسائل أنا أظنهم تحجروا واسعاً، بل ضيقوا، بل هم ربما يعدون حجر عثرة في سبيل عزة الإسلام والمسلمين، ونشر العلم بالطرق والوسائل المتاحة التي هيأها الله للناس.

فاتخاذ الوسيلة المناسبة والمباحة قد يكون واجباً إذا كانت متعينة في نشر العلم الشرعي، أو في تقرير الحق، أو في تقوية المسلمين، بل هي من إعداد القوة التي أمر الله بها، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠].

فالقوة هي قوة النفس وقوة الضمير، وهي قوة العلم وقوة القلم، وهي قوة الوسائل وقوة المؤسسات في عصرنا الحاضر، وهي تعني القوة المادية والمعنوية على حد سواء، والقوة المادية لا يح

<<  <  ج: ص:  >  >>