للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بدء الوحي]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما بلغ أربعين سنة اختصه الله بكرامته وابتعثه برسالته، أتاه جبريل عليه السلام وهو بغار حراء -جبل بمكة- فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: عشراً، والصحيح الأول].

هذا ذكر ما كان له صلى الله عليه وسلم عند تمام الأربعين، ولما قارب الأربعين بدأ ما يدل على أن الله جل وعلا سيختصه بأمر عظيم، فكان لا يمشي في طرقات مكة إلا ناداه الحجر والشجر: السلام عليك يا نبي الله، فيلتفت يميناً وشمالاً فلا يرى شخصاً ولا خيالاً فيتعجب ويمضي، وكان يرى الرؤيا فتقع كفلق الصبح، فحبب إليه الخلاء، فكان يأخذ معه سويقاً وماءً وكان يتحنث الليالي ذوات عدد في غار حراء يتأمل في ملكوت الله، وكل هذا يمضي بقدر الله حتى أتم عليه الصلاة والسلام رأس الأربعين.

فلما أتمها جاءه جبريل بالوحي من الله ليعطيه أعظم شرف على الإطلاق وهو أنه خاتم النبيين، ولم يكن عليه الصلاة والسلام قد رأى الملك من قبل لا في صورته الحقيقية ولا في غيرها، كان رجلاً من عامة الناس.

وما بين هذه اللحظة وهذه اللحظة أصبح خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، جاءه الملك وقال: اقرأ، فقال: (ما أنا بقارئ) أي: لا أجيد القراءة.

فالملك يردد الطلب، والنبي صلى الله عليه وسلم يردد الإجابة، ثم قال له الملك: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:١ - ٥] الخمس الآيات الأول من سورة العلق.

فنزل صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده وتتسابق خطواته، يشكل عليه أمران، لذة المناجاة، والخوف والفزع الذي أصابه مما رآه لأول وهلة، فلما وصل إلى خديجة رضي الله عنه وأرضاها أخبرها بما رأى فصدقته، فأصبحت خديجة أول هذه الأمة إيماناً برسولنا صلى الله عليه وسلم، فضمته وهو يقول: (دثروني دثروني، زملوني زملوني).

ولما أخبرها الخبر كانت تعلم أن باطنه وظاهره سواء، فقالت: والله لا يخزيك الله أبداً، ثم هذا اليمين استدلت عليه بدلائل، قالت: إنك لتعين على نوائب الحق، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وأخذت تعدد ما تراه وما تشاهده من زوجها صلوات الله وسلامه عليه، وأنه أهل للنبوة عليه الصلاة والسلام، فلم تفاجأ أنه سينبأ لما علمت رضي الله عنها وأرضاها وهي تعاشره وتخالطه ويأوي إليها من عظيم صفاته وجليل مناقبه التي فطره الله جل وعلا عليها قبل أن ينبأ.

والإنسان إذا خاف يحتاج إلى شيء ثقيل يمسك جوارحه حتى تقل وحشته، فكانت بديهياً أن يقول: (زملوني زملوني دثروني دثروني) لأن الخوف بلغ به مبلغاً عظيماً، فدثرته خديجة فأنزل الله جل وعلا عليه قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:١ - ٢] وقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:١ - ٢] فأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى ربه.

ثم انقطع الوحي فترة لحكمة إلهية، ولما انقطع الوحي لفترة ذهب الخوف وبقيت لذة المناجاة، فأصبح صلى الله عليه وسلم في أعظم الشوق للمناجاة، فلما جاءه الوحي مرة أخرى بالقرآن كان صلى الله عليه وسلم في أكمل حال يبلغ رسالة ربه على أكمل وجه.

ثم ذكر المصنف أنه عاش بمكة ثلاث عشرة سنة، وهذا هو الصحيح، وغيره شاذ لا يعول عليه، وفي المدينة عشر سنين بعد أن هاجر إليها صلوات الله وسلامه عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>