للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرح حديث: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فهذا تعليق موجز على أحاديث من كتاب الرقاق من صحيح البخاري رحمه الله تعالى، وقبل الشروع في هذا التعليق وسؤال الله جل وعلا التوفيق والقبول، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفصح من نطق لغة الضاد، وحديثه صلى الله عليه وسلم بين ظاهر؛ ولهذا نسأل الله الأدب في التعليق على كلامه صلوات الله وسلامه عليه، وما سنقوله إنما هو محاولة لفهم المراد من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتقديس والبعد عن الكذب وأنه الصدق لا محالة هو قول رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأما شرح من يشرح أحاديثه عليه الصلاة والسلام فهو عرضة للخطأ وعرضة للصواب، والموفق من سدده الله جل وعلا.

لكن نبرأ إلى الله أن نتعمد أن نقول على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم، أو أن نحاول أن نفهم شيئاً يغلب على الظن أنه لم يقصده صلوات الله وسلامه عليه، اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

سيقرأ أحد إخواننا الحديث ثم نعقب عليه حسب ما يقتضيه مقام الحديث، محاولين أن نستوعب أحاديث الباب كله، فنسأل الله التوفيق.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الرقاق.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)].

هذا أول أحاديث الباب، (ونعمتان) مفردهما نعمة، وهي بالكسر وصف من حال مخصوص، وبالفتح حال عامة تليق بالأمم والدول والشعوب والجماعات، وأما إذا قيل: (نعمة) فإنما يراد بها حال خاصة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (الصحة)، وقال: (الفراغ) أي: لكل جزئية منهما، وأما إذا فتحت وقلت: (نَعمة) فالمراد الإطلاق العام على الأمم والشعوب، قال الله جل وعلا عن بني إسرائيل: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:٢٧]، وقال جل وعلا عن المجتمع المكي أيام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل:١١] أي: أهل الترف العام.

وأما بالكسر فهي حال مخصوصة من رحمة الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، (نعمتان) خبر مقدم؛ للفت الانتباه لغرض بلاغي، والأصل (الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)، (والصحة) مبتدأ، وما بعدها معطوف عليها، و (نعمتان) هي الخبر، هذا من حيث الصناعة التأصيلية النحوية أولاً.

أما حيث معنى الحديث: فإن الغبن أصلاً يختار ويقال في قضايا البيع، وهذا النبي إنما بعث ليرشد الناس وينقذهم، والبائع التاجر له رأس مال يريد من ورائه ربحاً شريطة أن يسلم له رأس ماله، فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس بمقتضى ما يعرفونه في حياتهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)، وكيف يغبن فيهما كثير من الناس؟

و

الجواب

أن هناك صحة وهناك فراغاً، فبعض من الناس لديه متسع من الوقت لكنه يعاني سقماً، فلا يستفيد ولا يستطيع أن يقضي فراغه بما ينفعه؛ لانشغاله بمرضه، وآخرون لديهم صحة لكنهم مشغولون بالكد في سبيل تحصيل الرزق أو شيء آخر.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لـ جليبيب لما زوجه: (اللهم لا تجعل عيشهما كداً، وصب عليهما الخير صباً)؛ حتى لا يشتغلا بالكد عن الطاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر هنا أنه قد يوجد في عبد من الترف وإرث الأموال والنعمة التي أفاءها الله عليه ما هو مستغن لا يحتاج إلى الكد والسعي، وفي نفس الوقت أعطاه الله جل وعلا عافيةً وصحةً في بدنه، فإذا اجتمعت هاتان النعمتان في عبد: (الصحة والفراغ) ولم تجعلاه في طاعة الله جل وعلا، ولم ينتهزهما في التعامل مع ربه جل وعلا بالإيمان والعمل الصالح، وقول الله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:٧] فهذا الرجل مغبون، أي: أنه خاسر لم يفقه كيف يستثمر تلك النعمتين التي وهبهما الله جل وعلا إياه، ومن استثمرهما لا يقال له: مغبون، وإنما يغبط على أنه استثمر تلك النعم في طاعة الله جل وعلا.

هذا هو المقصود الأسمى من الحديث تقريباً، وجاز عليه أن يقال: إن الله جل وعلا يهب نعماً ويضع صوارف، ووضع موعداً، والناس في هذا يكدحون ويمضون ويغدون ويروحون لابد لهم من ذلك، فمن جعل همه الأكبر السعي في طاعة الله، وما أفاء الله عليه من النعم، وما دفع الله عنه من الصوارف، جعله عوناً على الطاعة، فهذا الذي فقه الشرع وفقه لقاء الله تبارك وتعالى.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)، فعبر بكلمة (كثير) لأن القلة من الناس من يفقه هذا الأمر، ويستثمر هاتين النعمتين في طاعة الرب جل وعلا، وقد جرت سنة الله في خلقه أن الأصفياء الفضلاء قليل، قال الله جل وعلا: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود:٤١]، وقال قبلها: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠]، وقال تبارك وتعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:٢٤] كما في سورة (ص).

والمقصود أن هذه الصفوة هي التي قال الله فيها: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:١٠ - ١١]، ثم أخبر أنهم قلة إذا ما قيسوا بغيرهم، هذا هو المقصود الأسمى من الحديث.

<<  <  ج: ص:  >  >>