للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرح حديث أبي هريرة عندما كان يغمى عليه من شدة الجوع]

الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فنستأنف بحمد الله تعالى التعليق على كتاب الرقاق من صحيح البخاري رحمه الله تعالى، وكما جرت العادة سيقرأ أخوكم، ثم نعلق إن شاء الله تعليقاً موجزاً على الحديث.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا.

عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماًَ على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا إلى أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة! كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة؛ أتقوى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب.

فشربت فما زال يقول: اشرب.

حتى قلت لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً.

قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة).

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزق آل محمد قوتاً)].

أراد المصنف بهذين الحديثين المتتابعين أن يبين كيف كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العيش، وما كانوا فيه من شظف العيش صلى الله على نبيه ورضي الله عن أصحابه.

والحديث الأول تحدث فيه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه حين ناداه النبي صلى الله عليه وسلم وسماه بـ أبي هر، ومناداة الإنسان وتكنيته وترغيبه بالشيء المتلبس به أمر جاء به القرآن، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:١]، وهذا ليس اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه نداء من الله جل وعلا لنبيه على الحالة التي كان متصفاً بها صلوات الله وسلامه عليه.

ومنه أيضاً قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:١]، فإنه لما تدثر صلى الله عليه وسلم في ثيابه ناداه ربه جل وعلا بالحال التي هو متلبس بها، وهذا من الهدي القرآني، وقد أخذه النبي صلى الله عليه وسلم من تعليم الله جل وعلا إياه، فكان يستعمله مع أصحابه، فقال لـ علي رضي الله عنه وأرضاه: (قم يا أبا تراب!).

وذلك لما كان ملتصقاً بالتراب وقد نام عليه.

وقال عليه الصلاة والسلام لـ حذيفة في يوم الخندق: (قم يا نومان)؛ لأنه كان نائماً، وأبو هريرة وجد في طريقه هرة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحملها، فلقبه النبي صلى الله عليه وسلم أو كناه بـ أبي هر، كما هو ظاهر الحديث.

وهذا الموقف أحد الأيام التي عاشها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه في المدينة، وهو مهاجر إليها قادم من دوس المنطقة والمحافظة الموجودة على مقربة من محافظة الباحة اليوم، فصار ليس له أهل ولا عشيرة في المدينة، فأصابه الجوع، فلما أصابه الجوع استحيا أن يخبر الناس أنه جائع، فأراد أن يعرض تعريضاً؛ ليحفظ على ماء وجهه، فتعرض في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ حتى يشعرهم أنه يريد أن يسألهم، وهو إنما يريد أن يذهبوا به إلى البيت ليطعموه، فقال قبلها يصور موقفه وحالة الجوع التي تلبس بها: إني على إحدى حالتين: إما أن ألصق كبدي على الأرض؛ رجاء أن يذهب الجوع ويخف عني.

والحالة الثانية: أن يضع الحجر على البطن، وهذه هي عادة كانت عند أهل الحجاز قديماً، فيأتون للحجر على هيئة الكف المرصوف وتكون أشبه بالشيء الأملس، وأشبه بهيئة الكف، وكلما طال كان أحسن، فيضعونه على بطونهم، ثم يربطون عليه، حتى إذا أصابهم جوع وبلغ منهم مبلغاً لا يتثنون، حتى لا يراهم الرائي فيظن أن بهم سقماً أو شدة جوع، فينتصب البطن، فينتصب مع البطن الظهر، فمن يراهم من بعيد لا يشعر أن بهم جوعاً، فيكون هذا الحجر قائماً مقام صلب الظهر وشده، فأخذها أبو هريرة عنهم لما سكن المدينة، وصنعها رجاء أن يبقى ظهره صلباً، ورجاء أن يسكن جوعه إذا اجتمعت أطراف بطنه.

فمر عليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم ينتبها له، وخيرة الله لـ أبي هريرة خير من خيرته لنفسه؛ لأن إطعام النبي عليه الصلاة والسلام له خير من إطعام أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما له، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فتبسم؛ لأنه عرف مراده، فلما عرف مراده قال: الحق، أي: طلب منه أن يلحق به، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دعاه إلى اللحوق إلا أن أبا هريرة عندما وصل إلى الدار استأذن، ففهم منها العلماء أن الإنسان وإن كان مدعواً من صاحب الدار يجب عليه أن يستأذن، فاستأذن، فلما ناداه النبي عليه الصلاة والسلام قال أبو هريرة رضي الله عنه مجيباً: (لبيك يا رسول الله!)، فأخذ منها العلماء جواز قول: لبيك ولو في غير مناسك الحج، والمراد بها إجابة المنادي، فكيف إذا كان المنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فلما دخل وجد النبي صلى الله عليه وسلم لبناً)، قال العلماء من أهل التفسير وغيرهم: إن الإنسان قد يشرق بأي شيء من المشروبات، فيغص بالماء وغيره، لكن لا يعلم أن أحداً غص أو شرق باللبن؛ لأن الله جل جلاله قال: {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:٦٦]، وهو رمز للفطرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام في رحلة المعراج: (قرب له إناءان: إناء فيه خمر وإناء فيه لبن، فاختار اللبن، فسمع جبريل أو منادياً يقول: هديت للفطرة)، فهو رمز للفطرة في حياتنا، ورمز للعلم في المنام.

فلما وجد النبي صلى الله عليه وسلم لبناً تعجب؛ لأنه يعلم أنه لا لبن في البيت، فأُخبر أن هذا مما أهدي له عليه الصلاة والسلام، وقد كان يأتيه عليه الصلاة والسلام بعض الهدايا من جيرانه من الأنصار وغيرهم، ولم يكن يخلو من أحد حالين: إما أن يكون هدية وإما أن يكون صدقة، والنبي عليه الصلاة والسلام تحرم عليه وعلى آل بيته الصدقة، فلا يقبلها، فإذا جاءت الصدقة بعث بها إلى أهل الصفة، وهم فقراء أضياف الإسلام في ناحية المسجد، وإن كانت هدية أشركهم معه صلوات الله وسلامه عليه، أي: بمعنى طعم منها وأشرك أهل الصفة معهم، فلما سأل عن هذا اللبن أخبر من أهل بيته أنه هدية، فأمر أبا هر رضي الله عنه وأرضاه أن يذهب فيدعو أهل الصفة، فأساءه ذلك الأمر وقال: لكنه لم يكن من طاعة الله ورسوله بد، ساءه ذلك الأمر؛ لأن الإنسان مجبول أصلاً على حب نفسه، خاصة وأنه كان في حاجة ملحة إلى اللبن، واللبن إذ ذاك قليل، وقال: ما عسى أن يبلغ هذا اللبن من أولئك الأضياف، لكن هو امتثل لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فغدا إلى أهل الصفة فدعاهم، فما وقع من أبي هريرة رضي الله عنه أنه استأذن رغم أنه كان مدعواً، وكذلك أهل الصفة رضي الله عنهم وأرضاهم فاستأذنوا فدخلوا، فلما دخلوا قام أبو هريرة مقام الخادم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي دعاهم، فأصبح أقرب خصيصة إليه، فأمره أن يطوف بالقدح المملوء لبناً على هؤلاء الأضياف، فكان أبو هريرة تأدباً مع أضياف رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي أحدهم الإناء، ثم يأخذه منه بعد أن يشرب، وبنفسه يعطيه للآخر، ثم يقف عند رأسه حتى ينتهي، ثم يأخذه منه، ثم يعطيه للذي بعده؛ لأن هؤلاء وإن كانوا صحابة دون النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا كثيري التطواف على النبي عليه الصلاة والسلام؛ إلا أنهم يبقون أضيافاً، وإكرام الضيف جاء به الدين، وإكرام الضيف بالقول وبطرف العين وبالنظر وبالعبارات أهم من أكرامه طعاماً، والعرب تقول: وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً وما لي شيمة غيرها تشبه العبد فالأحرار من الرجال لا يحتفون بأحد أكثر من احتفائهم لأضيافهم، والأحرار من الرجال كذلك، كما مر معنا في قضية أبي هريرة أنه لم يعرض بقضيته أنه جائع، وإنما أخذ كأنه يسأل؛ لعل النبي أو غيره يفهم أنه يحتاج، وكذلك الأحرار من الرجال -وهذا الطائفة الثالثة العالية- إذا عُرِّض أمامهم بالحاجة فهموها دون أن يصرح صاحبها؛ لأنه إذا صرح ال

<<  <  ج: ص:  >  >>