للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[دخول الجن دار الكرامة]

هنا مسألة، وهي: هل الجن يدخلون الجنة أم لا يدخلونها؟ إن الله تعالى يقول: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف:٢٩ - ٣١].

فالآية صريحة في أن هؤلاء الجن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودعوا قومهم إلى الإيمان فقالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٣١] وهذا عند النحويين يسمى جواب الأمر، فقوله تعالى: {وَآمِنُوا} [الأحقاف:٣١] أمر، وقوله: {أَجِيبُوا} [الأحقاف:٣١] أمر، وجوابه: (يغفر لكم) ولذلك جاءت مجزومة، وعطف عليها: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٣١].

قال فريق من العلماء: إن الجن يكافئون على إيمانهم بأن الله لا يعذبهم بالنار، ولكنهم لا يدخلون الجنة، ومن أدلتهم هذه الآية، فقالوا: إن الله ذكر إيمانهم، والآية في سياق الفضل والامتنان عليهم، فلو كان هناك جزاء على إيمانهم أعظم من الإجارة من العذاب الأليم لذكره الله جل وعلا هنا، فلما لم يذكر الله أنه يدخلهم الجنة دل على أنه يكفيهم من الثواب أن يجاروا من العذاب الأليم.

واحتجوا بدليل عقلي، فقالوا: إن الجن من ذرية إبليس وذرية إبليس، لا يمكن لها أن تدخل الجنة.

ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه قال: إنهم يكونون حول الجنة في أرجائها وأطرافها، ولا يدخلون بحبوحتها.

وقال آخرون: يدخلون الجنة، ولكنهم لا يرون بني آدم، ويراهم بنو آدم، على عكس ما كانت عليه الحالة في الدنيا.

وقال آخرون: إنهم يدخلون الجنة، ولكنهم لا يطعمون ولا يشربون؛ لأنهم قريبو الخلق من الملائكة، فيعاملون معاملة الملائكة في أنهم لا يتلذذون بطعام الجنة ولا شرابها.

وهذه أقوال ليس عليها دليل، ولكن منهجي العلمي أن أذكر كل شيء، ثم أبين ما نعتقد أنه صحيح، وقد ساقها جميعاً الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، ورآها مرجوحة جداً، وقال الرأي الذي يراه، ونحن مقتنعون تماماً بما دونه الحافظ ابن كثير، وقد حرر ذلك تحريراً علمياً يدل على علو كعبه رحمه الله تعالى في العلم، وهو بلا شك كذلك.

قال الحافظ يرد عليهم: إن الله قال في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:٤٦ - ٤٧].

فقال: إن الآية مخاطب بها الثقلان: الجن والإنس، والآية في سياق الامتنان، فما كان الله ليمتن على الجن بجزاء لا يحصل لهم، يعني: إذا كان الله يقول لهم وللإنس: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦] ويعدهم بالجنتين، وكان هذا الجزاء لا يحصل لمؤمنهم؛ فلا عبرة ولا داعي لأن يمن الله عليهم بشيء لا يقع لهم، وهذا دليل من القوة بمكان.

ثم قال رحمه الله تعالى: إن الله جل وعلا إذا كان يعاقب كافرهم على أن يدخل النار وهو مقام عدل؛ فلأن يعاقب ويكافئ مؤمنهم بدخول الجنة -وهو مقام فضل- من باب أولى.

ثم قال رحمه الله تعالى: يشملهم قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:١٠٧]، فهم يدخلون في عموم هذه الآية؛ لأنهم مؤمنون، وعملوا الصالحات.

ثم قال رحمه الله تعالى: إنه إذا ثبت أن الله جل وعلا ينشئ للجنة خلقاً -لم يكلفوا في الدنيا لأن الذين كتب الله لهم الجنة لا يملئونها-، فمن باب أولى أن يدخلها من كلف وآمن وعمل صالحاً، وهم الجن.

هذه أجوبته، وهذا الذي عليه أكثر العلماء.

<<  <  ج: ص:  >  >>