للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[استراق الجن للسمع قبل البعثة ومنعهم من ذلك بعد البعثة]

وأما السيرة فإن الجن كانوا يسترقون السمع، قال الله جل وعلا عنهم: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:٩]، وكانت الجن لا يحول بينها وبين خبر السماء شيء، فلما أراد الله بعثة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وقد علم الله أزلاً وأراد ذلك قدراً أن ينزل خير كتبه على خير خلقه، حمى الله جل وعلا وحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من استراق الجن له، فالذي وقع أن الله جل وعلا منع الجن من استراق السمع، وهذا كان كبيراً جداً على الجن، فخرجوا يبحثون عن السبب، فطائفة منهم جاءت إلى وادي النخلة، فمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في منقلبه من الطائف إلى مكة قائماً به في الليل، فجاءوا وسمعوا أعظم كلام وهو كلام الله، من أعذب وأعظم من تكلم به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوه رطباً من شفتيه، الجن وقلوبهم مخلوقة من نار لما رأت القرآن يتلي من لدن محمد صلى الله عليه وسلم ركب بعضها بعضاً، وقد صور الله هذا الموقف فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:١٩] وعبد الله هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ((كَادُوا)) أي: الجن، {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:١٩] تقول: تلبد الشيء يعني: ركب بعضه بعضاً، فركب بعضهم بعضاً يستمعون القرآن رغم أنهم كانوا تقريباً تسعة، فهؤلاء بعثهم إبليس لينظروا في سبب عدم قدرتهم على استراق السمع، فأضحوا مؤمنين، فرقت قلوبهم ولانت طباعهم، وأسلموا أمرهم لله وقبلوا الدين، قال الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٢٩ - ٣١]، فانقلبوا من كفرة مردة أعوان لإبليس إلى مؤمنين صالحين يدعون إلى الله جل وعلا، فظاهر الأمر أنهم كانوا يهوداً؛ لأنهم قالوا: (أنزل من بعد موسى) ولم يذكروا عيسى بشيء.

والمقصود: أن الله جل وعلا خيرته لعبده خير من خيرة العبد لنفسه، وهؤلاء خرجوا لأمر وعادوا بشيء آخر عادوا مؤمنين، وكما أخبر الله جل وعلا أنهم عادوا ليسوا فقط مؤمنين، بل مؤمنين يدعون إلى دين ربهم، (يا قومنا أجيبوا داعي الله)، وهكذا المؤمن إذا تلقى العلم بلغه غيره؛ حتى يكون ممن يدعو إلى دين الله جل وعلا.

<<  <  ج: ص:  >  >>