للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تبيين أن الضمير في قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته) يعود إلى الصديق]

والنبي عليه الصلاة والسلام مكث مع أبي بكر في الغار، وهذا أمر مستفيض، لكنني سأقف عند نقطة يغفل عنها البعض، وإن كان قولنا فيها قد يخالف قول جماهير أهل العلم من المفسرين، الله جل وعلا يقول: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:٤٠]، فجمهور أهل العلم من المفسرين على أن قول الله جل وعلا: ((فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ)) أي: على النبي صلى الله عليه وسلم، ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)) أي: بما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من نصرة في الغار، وأقول والعلم عند الله: إن هذا خلاف الصواب أو خلاف ظاهر الآية فيما يبدو لنا، وتفسير معنى الآية كالآتي: لقد نزلت هذه الآية تتحدث عما كان من حال بعض المنافقين من عدم نصرتهم لنبينا صلى الله عليه وسلم، فالله جل وعلا أراد أن يبين لمن يقرأ كلامه أن النبي صلى الله عليه وسلم في غنى عن نصرة العباد له؛ لأن الله ينصره، ثم ذكر الله جل وعلا -فيما نحسب- موضعين نصر فيهما نبيه، فقال: ((إِلَّا تَنصُرُوهُ)) أي: إن لم تنصروه، ((فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)) في موضعين، الأول: ((إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ))، فالموقف الأول عندما أخرجه الذين كفروا، أي: ألجئوه إلى الخروج من مكة إلى المدينة، ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ)) أي: النبي صلى الله عليه وسلم والصديق: ((إِذْ هُمَا)) النبي والصديق، ((فِي الْغَارِ)) المعروف.

هذا كله لا خلاف فيه، ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ)) أي: النبي صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر، وهذا إلى الآن متفق عليه، ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) وهذا خطاب من النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو بكر: (إن أحدهم لو نظر أسفل قدميه لرآنا، قال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، فهذا الحدث بينه الله قولاً فقال الله جل وعلا: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا))، وهذه منزلة شريفة لـ أبي بكر، إذ أن الله قال على لسان نبيه في القرآن: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) أي: معك، في حين أن الله قال على لسان كليمه موسى لما أتبعه فرعون وجنوده بغياً وعدواً، قال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢]، ولم يشرك في تلك المعية، في حين أن الله جل وعلا أشرك الصديق في هذه المعية مع نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كنا نعلم أن نصرة الله لنبيه تختلف عن نصرته لـ أبي بكر، لكن في جملة الخطاب جاء الخطاب واحداً، ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي: على أبي بكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الغار مطمئناً، تغشاه السكينة، وأما أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه فحزنه وشفقته وخوفه على رسوله صلى الله عليه وسلم جعله خائفاً؛ لأنه يعلم أن في هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهاباً للدين، وهلاكاً للأمة، فدخل خائفاً وجلاً، وأخذ يقول: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر أسفل قدميه لرآنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الصديق: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وبهذا اللفظ النبوي نزلت السكينة على أبي بكر: ((فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ))، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم من بادئ الأمر والسكينة عليه، وأما الصديق فبعد هذا الطمأنينة التي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم غشيته السكينة، وأما قول الله: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)) عقلاً -يا أخي- ونقلاً لا يمكن أن يستقيم الخطاب إذا كان الحديث عن الهجرة، لكن ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)) الواو هذه واو استئناف، والله يتكلم الآن عن موقف ثان غير موقف الهجرة، يتكلم على أنه نصر نبيه يوم بدر، فيوم بدر حاربت الملائكة، والصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم كانوا حاضرين بدراً، يعني: النفر الذين شهدوا بدراً كانوا حاضرين، ومع ذلك لم يروا الملائكة، ولم يروا أولئك الجند الذين أيد الله بهم نبيه، فهذا معنى قول الله: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ)) أي: يوم بدر ((لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى))، هذا كله في بدر.

إذاً: القرآن يتحدث عن موقفين نصر الله فيهما نبيه: الموقف الأول يوم الغار، والموقف الثاني: يوم بدر، ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا))، لكن لو جعلنا كما قال -جمهور أهل التفسير- لو جعلنا الخطاب: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)) خاص بيوم الهجرة فلا يستقيم المعنى؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وهم المخاطبون الأولون بالقرآن لم يكونوا حاضرين يوم الغار، فبدهي جداً أنهم لم يروا النبي ولم يروا الجنود؛ لأنهم لم يكونوا حاضرين، والإنسان لا يطلب منه ولا يكلف أن يقع شاهد إثبات يعمر فيه، لا يمكن أن يقع هذا، ولا يمكن أن يستقيم نقلاً ولا عقلاً، لكنهم يوم بدر كانوا حاضرين مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، فشهدوا المعركة لكنهم لم يشهدوا أولئك الملائكة وهم ينصرون نبينا صلى الله عليه وسلم.

فيستقيم المعنى: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)) وكنتم حاضرين، لكن في يوم الغار لم يكن أحد من الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر، وكان موجوداً مع النبي في الغار، فلا يستقيم أن يكون الخطاب عن يوم الغار: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)).

ومن ذهب إلى أن المقصود نسج العنكبوت وبيض الحمامة، فهذا يرده العقل، ولو سلمنا بصحة الرواية التي تقول: إن العنكبوت نسجت بيتاً، وسلمنا بصحة الرواية التي تقول: إن الحمامة باضت، فهذه من جنود الله ونحن متفقون، لكنها ترى بالعين، فالله يقول: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا) فإذا كان القرشيون رأوا الحمامة ورأوا العنكبوت لم يستقم معنى الآية: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا) لكن يستقيم إذا جعلنا الموقف موقفين: يوم بدر وموقف قبله يوم الغار، فالله يريد أن يقول للناس: إنني نصرت نبيي بموقفين حالكين: موقف الغار لم يكن معه إلا أصحابه، وموقف يوم بدر يوم كانوا أذلة، وهذا يعضده قول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:١٢٣].

بعض الطوائف ممن ينتسب إلى الإسلام ((لا تَحْزَنْ)) فيها قدح لـ أبي بكر، أين القدح؟ قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصديق، وفعل الصديق هذا واحد من اثنين -حسب نظرتهم- إما أن يكون طاعة وإما أن يكون معصية، فلو كان حزنه طاعة، فالنبي لا يمكن أن ينهاه عن طاعة ويقول له لا تحزن وهي طاعة، قالوا: لم يبق إلا أن يكون معصية، فيقولون: إن الصديق عصى الله ورسوله يوم الغار، وهذا باطل؛ لأن هذا الموقف ليس موقف طاعة ولا موقف معصية، بدليل أن الله قال لنبيه: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس:٧٦] فإذا كان قول الله جل وعلا: ((لا تَحْزَنْ)) قدح للصديق فيلزم من قولكم أن قول الله: ((فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ)) قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول فيه كفر.

إذاً فـ الصديق لم يكن عليه تثريب، بل إنني أقول: إن قول الله جل وعلا: ((فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ)) أن المقصود إنزاله على الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهي من أعظم مناقبه وخصاله، فما آتاه الله إياه رضي الله عنه وعن أبويه وعن أبنائه وبناته، فلا يعرف في الصحابة أحد أسلم أبواه وزوجته وأبناؤه وبناته جميعاً إلا الصديق، فهذه خصيصة ومنقبة أكرم الله بها صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أرجو أن يكون قد تحرر الخطاب حول الهجرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>