للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[صورة ثانية من رحمته صلى الله عليه وسلم بصحابته]

هذا بعض أحواله صلى الله عليه وسلم، ولنأخذ حالاً أخرى مع أصحابه فنذكر خبره مع جابر بن عبد الله: جابر رضي الله عنه وأرضاه مات أبوه شهيداً في أحد، وقد أوصاه بأخواته من بعده، فبقي جابر يحمل هم أخواته، وكان قليل ذات اليد، وذات يوم كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وهو على جمل له والجمل به داء، فتأخر عن الركب، وهو عليه الصلاة والسلام يسير في آخر الركب شفقة بهم، ولهذا قال الدكتور المادح هنا: يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل جابراً عما يعيقه في الطريق، فأخبره بالجمل وبما عليه من عيب، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتبيعني إياه، فقبل جابر لكنه اشترط أن يمضي به إلى المدينة، فوخز النبي صلى الله عليه وسلم الجمل بعصاً كانت معه فأصبح الجمل يسرع وينافس غيره من الجمال، ولما وصل المدينة عليه الصلاة والسلام جاء جابر بالجمل، فقال صلى الله عليه وسلم لخازنه المالي أظنه قال لـ بلال: زده في السعر، يعني: إذا كنا نحن اتفقنا مثلاً معه على أوقيتين أو درهمين فزده، فبعد أن قبض جابر المال قال صلى الله عليه وسلم لـ جابر: خذ جملك)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطي جابراً، لكن لم يرد أن يعطيه المال بطرية مباشرة، وحفظاً وعلى كرامته وعلى شخصيته جاء له بطريقة البيع والشراء.

وجابر نفسه رضي الله عنه وأرضاه سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن الزواج، فقال: (تزوجت، قال: أبكراً أم ثيباً؟ قال: ثيباً، قال: هلا بكر تلاعبها وتلاعبك فقال عذره رضي الله عنه وأرضاه، قال: إن أبي ترك لي أخوات فأنا لو جئت بصغيرة بكر لأصبحت ترباً لهن تنافسهن وينافسنها، لكن أتى بثيب حتى يحقق وصية أبيه)، وهذا العمل من جابر يسمى وسطية، وقد أخذه جابر من النبي صلى الله عليه وسلم وأما لو جاء أحد غير جابر وأوصاه أبوه بأخواته فإنه سيقول: أنا لست في حاجة لأن أتزوج، وصية أبي أهم، فأبقى على أخواتي، فيحرم نفسه مما أباحه الله، وقد يأتي شخص آخر ويقول: أنا لست مسئولاً عن أخواتي، وأنا مكلف بنفسي سأتزوج بكراً، فـ جابر رضي الله عنه وأرضاه جمع بين الأمرين ما بين الزواج واختار ثيباً؛ حتى تكون الثيب أقدر على رعاية أخواته.

قلت: إن جابراً استقى هذا من السنة، ففي غزوة أحد استشهد من الصحابة سبعون، فالله جل وعلا يقول: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:١٤٠]، يعني: إن قتل منكم سبعون في أحد فقد قتل منهم سبعون في بدر، فالذي يعنينا أن الصحابة رضي الله تعالى عليهم شق عليهم قتل السبعين، وأرادوا أن يحملوا قتلاهم ويدفنوهم في المدينة؛ لأن هناك في المدينة الغلمان والخدم والعبيد يعملون معهم فيدفنون، وأما في أحد فلا يستطيعون أن يحرفوا سبعين قبراً؛ لأنهم منهزمين منكسرين قد أصابهم الجرح والقرح، وهم كلمى من الجراح، فأرادوا أن يحملوا قتلاهم إلى المدينة ليكون أيسر في عملية الحفر والدفن، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن الأرض التي قتلوا فيها تشهد لهم، فجاء صلى الله عليه وسلم بحل وسط فقال صلى الله عليه وسلم: احفروا -أي: في أحد- وعمقوا القبر وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، فالسبعون عندما يدفنون اثنين وثلاثة في قبر لا نصبح في حاجة إلى سبعين قبراً، بل نحتاج إلى أقل، نحتاج إلى عشرين أو إلى أربعين بالأكثر، فهذا فيه نوع من الشفقة على الصحابة وفيه نفس الوقت تحقيق لمقصد شرعي، وهو أن الأرض تشهد لهم، فيكون صلى الله عليه وسلم قد جمع بين الأمرين لأصحابه، فهذا استنبطه جابر معنىً، فلما أراد أن يتزوج تزوج ثيباً، لتكون زوجة له، وفي نفس الوقت تقوم برعاية إخوته.

<<  <  ج: ص:  >  >>