للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إرهاصات وبدايات الوحي]

وإما أن يأتي في صورة رجل معروف كما كان يأتي في صورة دحية الكلبي، ودحية الكلبي صحابي جليل كان وسيماً جداً، فكان جبريل أحياناً يأتي في صورته للنبي صلى الله عليه وسلم.

وجبريل أول مرة جاء للنبي عليه الصلاة والسلام قطعاً في رمضان، وإنما اختلف العلماء في أي رمضان جاءه، وبعض العلماء قال: في ربيع، وبعضهم قال: في رجب، وبعضهم قال: ليلة النصف من شعبان، وبعضهم -وهم الأكثر- قال: في رمضان، وبعض العلماء يجزم أنه جاءه في ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، والذي يعنينا أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقبلها كانت هناك إرهاصات، ومن هذه الإرهاصات أن النبي عليه السلام وهو صبي كان يحب أن يأتي ما كان يأتيه قومه، ثم عصمه الله، ثم بدأت الفجوة بين حياته ومنشئه صلى الله عليه وسلم وبين منشأ القرشيين، فكلما كبر أخذ ينكر ما يصنعه قومه، فاحتاج إلى أن يخلو عن قومه، فحبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء يتحنث -كما تقول عائشة - الليالي ذوات العدد، فإذا تحنث أخذ يتفكر، وقبلها كان يرى الرؤيا فتقع كفلق الصبح، إذاً: فأول الوحي كانت الرؤيا الصادقة، ثم كان صلى الله عليه وسلم يمشي في طرقات مكة فيسلم عليه الحجر والشجر، يقول: السلام عليك يا نبي الله، فيلتفت يميناً وشمالاً فلا يجد شخصاً ولا خيالاً، فيمضي لا يدري ما الله يصنع به، حتى جاءه جبريل في يوم البعثة الأول وقد أتم الله له أربعين سنة، وقد قال العلماء -ولا يوجد دليل صريح-: هي السن التي يبعث الله عليها الأنبياء والرسل، جاءه جبريل بالخمس الآيات الأول من سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:١] في القصة المعروفة، (فنزل صلى الله عليه وسلم تتسابق قدماه حتى وصل إلى بيت خديجة وهو يقول: دثروني دثروني، زملوني زملوني، فأخذته خديجة إلى ابن عمها يقال له ورقة بن نوفل أعطي علماً من علم الكتاب، فلما قص عليه الصلاة والسلام الخبر على ورقة، قال: هذا الناموس الأكبر الذي أتى موسى -أي: يقصد جبريل-، ثم قال: يا ليتني أكون جذعاً -يعني: شاباً قوياً- عندما يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: إنه ما أتى أحد بمثل ما أوتيت به إلا وأخرجه قومه)، هذه هي الساعة التي تغير فيها الكون كله، لما أراد الله خيراً ببني آدم بعث الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم، فمكث أربعين عاماً بشراً غير نبي ولا رسول، ثم نبئ وأرسل، والعلماء يقولون: إنه نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر؛ على اعتبار أنه لما قال الله له: اقرأ، هذا تربية له هو نفسه صلى الله عليه وسلم، ولم يكلفه الله أن يدعو أحداً أبداً، وإنما قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:١ - ٥].

وإعطاء الخبر وتربية الناس لابد أن يكون تدريجاً وإلا يفسد الأمر وينهدم البناء، لكن البناء إذا كان تدريجياً فإنه يسمو بصاحبه ويبقى ويثبت، وهذا الذي أراده الله من بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، فمكث أربعين عاماً لا ينبأ ولا يرسل ولا يبعث حتى استوى على سوقه، وعرف الناس وخبرهم، ورعى الغنم، واحتك بالخلق، وأصبح يعرف بالصادق الأمين، فلما أتم الله له ذلك كله بعثه الله جل وعلا نبياً ورسولاً صلوات الله وسلامه عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>