للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[معرفة الأشباه والنظائر]

الشيخ: هذا سؤال جزاكم الله خيراً في موضعه، فلعل من أعظم المدركات التي من خلالها يصل الإنسان إلى أن يكون حكيماً ولو قليلاً معرفة الأشباه والنظائر، فالإنسان العاقل لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متناقصين، ولهذا فالشرع لا يوجد فيه جمع مابين منتاقضين ولا تفريق مابين متماثلين، فالأشباه والنظائر يساق بعضها إلى بعض، فعلى الإنسان أن يطلع على أحوال العباد، ويقرأ في تاريخ من سبق، فإذا أدلهم به الأمر، ونزلت به نازلة تحتاج إلى تصرف حكيم جمع الأشباه والنظائر فقاس النظير على النظير.

وقد يقول إنسان: أين الدليل من السنة على هذا؟ فسنذكر حديثاً قد لا يكون مشهوراً، فقد أخرج الإمام النسائي في السنن أظنه في كتاب الجهاد حديثاً صححه الألباني رحمة الله تعالى عليه: أنه يختصم عند الله جل وعلا طائفتان: الشهداء المقتولون في المعركة يختصمون مع المتوفين من المؤمنين على فرشهم فيمن مات بالطاعون.

فالقتلى الذين في المعركة يقولون: هؤلاء إخواننا وأجرهم أجرنا؛ لأن جراحهم تشبه جراحنا، فهم لهم جراح، والذين توفوا على فراشهم يقولون: هؤلاء تبع لنا؛ لأنهم مثلنا ماتوا على الفراش ولم يدخلوا المعركة.

فيقول الله جل وعلا لملائكته: انظروا إلى جراحهم.

فينظرون إلى جراح موتى الطاعون فتجد الملائكة أن جراح من يموت بالطاعون كجراح من يموت في المعركة، فيلحقون بالقتلى.

فهذا شاهد على أن النظير يأخذ حكم نظيره، فالذين يتوفون على فرشهم نظروا إلى الظاهر وهو الموت على الفراش، والشهداء الذين ماتوا في المعركة نظروا إلى الباطن، فلما حكم الرب جل وعلا -وهو أصدق الحاكمين- بينهم أمر ملائكته أن ينظروا في الجراح وهي غائرة ليست شيئاً ظاهراً، فوجدوها أقرب إلى القتلى، فألحقوا بهؤلاء، فهذا دليلنا على أن الإنسان حتى يكون حكيماً في تصرفه وقوله وفعله وحكمه، وحتى يكون موافقاً للصواب لابد أن يكون هناك أشباه ونظائر.

ومنها نفهم لماذا الله جل وعلا قص علينا أخبار الأمم السابقة؛ حتى نكون حكماء فنعلم أن النظير يأخذ حكم نظيره، فإذا كانت الأمم التي سلفت قد أهلكت بذنوبها فقطعاً نحن إذا أذنبنا فسنهلك بذنوبنا، وإلا كان لا معنى لوجود ذلك الأصل القرآني، فالله جل وعلا ذكر قصصهم ثم قال: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:٤٠] وذكر السبب، ولهذا أمر الله جل وعلا بالسير في الأرض والنظر في الديار والتأمل في الآثار؛ حتى نأخذ منها العظة، وقد قلنا قبل قليل: إنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليهم الصفا ذهباً، فالله جل وعلا قال لنبيه جل وعلا: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:٥٩] أي: أن النظير سيأخذ حكم نظيره، فلو جعلنا الصفا ذهباً وكذب بها قومك فالسنة تقضي بأننا سنهلكهم.

إذاً: فهذا هو معنى أن النظير يأخذ حكم نظيره، والإنسان يتأمل، ولذلك حتى في حياتنا اليومية فأحياناً الإنسان في شيء له يطالب به، وقد يقع عليه مثل ذلك الشيء الذي طلبه فيقع عليه واجباً فلا يعطيه، فما دمت قد طلبته لنفسك فمن حق الناس أن تعطيهم حقهم، فهذه سنة لله جل وعلا في خلقه، وصانعوها ومتأملوها ومتدبروها ومن جمعوا الأشباه والنظائر هم الحكماء حقاً بمقدار قربهم من الرب تبارك وتعالى, هذه أيها المبارك ربما تكون أول المدركات.

<<  <  ج: ص:  >  >>