للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التعامل مع الله تعالى]

السؤال

التعامل مع الله عز وجل له ضوابط كثيرة، فما أهمها؟

الجواب

التعامل مع الله جل وعلا هو التجارة التي لا تبور، قال الله جل وعلا في وصف عباده الأخيار: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:٢٩].

والتعامل مع الله يستصحب المرء فيه أصلين عظيمين: محبته وتعظيمه، ثم يزدلف بعد ذلك إلى بعض المعالم التي من أظهرها الصدق معه تبارك وتعالى.

فالصدق مع الله جل وعلا أعظم ما يعين المرء على التعامل الحق مع ربه جل وعلا، ومن صدق إلى الله فراره صدق مع الله قراره، والله يقول وقوله الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:١١٩]، وفي خاتمة سورة المائدة قال الله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [المائدة:١١٩].

فأعظم ما ينبغي على المرء صنيعه في تعامله مع ربه أن يكون صادقاً في تعامله مع الله.

الإنسان قد يقدر على أن يخدع ثلة من الناس، بل قد يصل الدهاة إلى خدعة الجماهير كلها، وبعض الناس قد يصل لمرض في نفسه إلى أن يخدع نفسه، لكن الشيء الذي لا يمكن لأحد أن يقدر عليه هو أن يحاول أن يخدع ربه.

فالله جل وعلا لا يمكن أن يخدع، فإن كان محالاً أن يخدع الرب تبارك وتعالى أحد من خلقه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤]، وجب بعد ذلك على المنصف العاقل الذي يعرف ما عند الله من الثواب ويعرف ما عند الله من العقاب أن يلجأ إلى الصدق مع الله جل وعلا، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:١١٩].

المعلم الثاني: الأدب مع الرب تبارك وتعالى، والأدب مع الله جل وعلا حررناه سلفاً في لقاءات سابقة؛ لكن نقتبس ما ينفعنا في مقامنا هذا.

من الأدب مع الله أن يعلم العبد أن أي مرغوب لا يتحقق إلا بإحسان من الله وفضل، وأي مرهوب لا يدفع إلا بحول الله جل وعلا وطوله، فبقوته وحوله تبارك وتعالى ندفع ما نخاف ونتقي ما نخشى، وبإحسانه جل وعلا وفضله يتحقق لنا ما نؤمل ويحصل لنا ما نريد فإذا صدق المرء بتوكله مع ربه وتأدب مع الله وعلم يقيناً أنه لا يمكن لأحد أن ينفعه إلا ربه ولا يمكن لأحد أن يضره إلا ربه صدق مع الله جل وعلا وتأدب معه في حياته كلها.

ومن الأدب مع الله جل وعلا ألا يأخذ المرء شيئاً لا ينبغي صرفه لله فيعطيه لغير الله جل وعلا، فكما أن الله جل وعلا له ذات لا تشبه جميع الذوات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، فكذلك فيما نصرفه نحن من أعمال، فمنها أمور تعبدية محضة صرفها إلى غير الله شرك، وبعضها قد لا يكون شركاً لكن يكون من الأدب مع ربنا تبارك وتعالى ألا نصرفه لغيره.

دخل المهدي الخليفة العباسي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى رحلاته للحج فإذا فيه الفقيه المدني المعروف ابن أبي ذئب، فقال أحد حاشية أمير المؤمنين لـ ابن أبي ذئب: قم، هذا أمير المؤمنين! فقال ابن أبي ذئب رحمه الله: إنما يقوم الناس لرب العالمين.

فأراد بعض الحاشية والحرس أن ينهره وكان منهم رجل يقال له زهير، فقال المهدي لـ زهير: اتركه فقد وقف والله شعر رأسي مما قال! ابن أبي ذئب وفق في هذا الصنيع في المسجد؛ لأنه بيت من بيوت الله؛ لكن لو كان هذا الأمر خارج المسجد كان ينبغي إجلال السلطان المسلم وسيأتي هذا، لكن الذي يعنينا أن هذا العبد الصالح فرق وهو في بيت من بيوت الله بين ما يمكن صرفه لله على الإطلاق، وما يمكن تقييد الأمر في فعله مع غيره تبارك وتعالى تأدباً مع الله.

والإنسان إذا تأدب مع الله علم أن الأمور تلوح بين الحين والآخر فربما ركن لها قلبه من حيث لا يدري، لكن إذا أراد الله بعبد خيراً كان إقدامه أو إحجامه أو إصراره أو تراجعه لله وحده دون سواه، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:١٦٢].

المعلم الثالث: الحياء مع الله تبارك وتعالى: ثمة أمور يستحيي العبد أن يراه الله جل وعلا يصنعها، وهي كل ما نهى جل وعلا عنه، لكن من أدمن النظر وتأمل في سير الأخيار من هذه الأمة وجد خصالاً وصفات عظيمة تحلى بها السابقون قبلنا؛ من ذلك أن أبا موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان إذا اغتسل لا يقيم صلبه حتى يرتدي ملابسه.

وأنت تعلم أن وسائل الاغتسال في ذلك العصر تعتمد على الاغتراف، فكان أبو موسى يغتسل في الغرفة المظلمة ثانياً جذعه حتى يستطيع أن يغرف، فإذا فرغ من الاغتسال لا يقيم صلبه حتى لا تنكشف عورته، وإنما يتناول ثيابه أولاً.

قال أهل التراجم في وصفه: كان ستيراً حيياً من ربه تبارك وتعالى، وهذه منزلة عالية وإن كان الإنسان غير ملزم بها؛ لكن معلوم أن لله عباداً أصفياء اجتباهم ربهم تبارك وتعالى واصطفاهم فإن ساروا أو تحركوا أو قاموا أو قعدوا فعلوا ذلك كله لربهم جل وعلا، {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٢ - ٦٣]، وهذا من جنس ولايتهم لربهم تبارك وتعالى ومندرج فيه.

هذه الثلاث إذا صاحبها بعد ذلك سريرة بأن يصنعها العبد بينه وبين ربه؛ ادخرها الله له إلى يوم لقائه جل وعلا.

ومن صدقت نيته وصلحت سريرته وكان له عند الله عمل مقبول فلن يبلغ أحد سعادته إذا لقي الله.

قال الله جل وعلا عن أهل طاعته إنهم يقولون: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:١٩]؛ لأنه فرح مسرور بما فيه فيحب أن يراه الناس، في حين أنه في الدنيا لا يحب أن يرى الناس منه تلك الطاعة؛ لأنه ادخرها ليوم يلقى الله جل وعلا فيه، أحسب فيما أعلم أن هذه الأربعة تحدد معالم التعامل مع رب العزة والجلال.

<<  <  ج: ص:  >  >>