للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الصفات الأخرى التي يجب تحققها في الراسخين في العلم]

الملقي: أعود إلى الأمور الأربعة التي ذكرت أنها يجب أن تتوافر فيمن يكون راسخاً في العلم، لعلك تلاحظ -يا شيخ- أنها كلها أمور سلوكية، فهل يضاف إليها غيرها؟ الشيخ: نعم، هي أمور سلوكية لكنها فيصل عظيم، صحيح لابد من أمور مصاحبة أخر لكن هذه الأربع هي التي تكون فيصلاً في معرفة العالم الحق.

ومما يضاف إليها: أن يعلم أن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده، فهو فضل وفهم يؤتيه الله من يشاء، قال مالك رحمه الله: ليس العلم بكثرة الرواية ولكنه فهم ونور يؤتيه الله من يشاء.

هذا القول تلقاه أهل العلم بالقبول؛ لأن السنة دلت عليه، فقد دل عليه حديث علي رضي الله عنه كما في البخاري: (هل خصكم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه الله من يشاء بكتابه).

قال الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في الفتح معلقاً على هذا: وهذا القول يؤيد قول مالك رحمه الله أن العلم نور وفهم يؤتيه الله جل وعلا من يشاء، قال بعض المالكية يمدح مالكاً على قوله هذا: ومن قوله المفيد غاية ليس العلم بكثرة الرواية لكنه نور في القلوب يضعه رب السموات لمن يشاء ر فعه البيت قريب من هذا! المقصود أن العلم نور يقذفه الله جل وعلا في قلب من يشاء هذا أمر يجب أن يتنبه الناس إليه عندما يريدون أن يتعاملوا مع العلماء أو أن يسلكوا طلب العلم، وهذا أمر ملحوظ، فكم من إنسان ثنى ركباً وقرأ أوراقاً ولم يبلغ فيه مبلغاً، وكم من إنسان فتح الله عليه بسرعة، ولا يعني ذلك أنه لم يطلب؛ لأن الحقيقية الثانية هي: كثرة الطلب.

فلابد من الطلب، لكن متى يكون الطلب؟ كان بعض العلماء يقول: الطلب دون الأربعين، وبعد الأربعين يتفرغ للعبادة، لكن رد هذا بأنه عرف في الأمة علماء طلبوا العلم بعد الأربعين مثل حسن بن زياد اللؤلؤي أحد علماء الحنفية طلب العلم السبعين وفاق فيه وأصبح مفتياً وهو لم يبدأ الطلب إلا بعد السبعين، وكان أول ذلك كله عابداً.

فكثرة الطلب والعناية الهامة جداً بعلم الآلة؛ لأن الإنسان إذا فقد علم الآلة لا يمكن أن يصل.

وقد يكون وقت البرنامج داهمنا، لكن حتى يستفيد الناس أنصح نصائح عامة من خلال التجربة فأقول: العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء، ولابد أن تستصحب ذلك، فتسأل الله من فضله، ولا تبدأ حياتك العلمية بنقد الكبار ولا بالرد على مسائل اختلفوا فيها؛ لأنك تكشف بذلك عورتك.

لا تطير قبل أن تريش، فليكن قبل الأربعين جمع ثم بعد الأربعين غربلة لذلك الجمع، ولا تبدأ بنقاش الكبار حتى لو أخطئوا؛ لأنك لا تملك الآلة إلى مناقشتهم.

وأيضاً: لابد من الصبر وتقصي الحق في المسائل العلمية.

محمد الأمين الشنقيطي لما جاء يناقش هل الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع وذلك في تفسيره للقرآن ذكر بحثاً مجملاً، ثم قال حتى يبين أنه يلم بشتات القضية: والقضية من حيث المنهج العلمي يمكن مناقشتها من ثلاثة أوجه: النص الصريح القولي أو الفعلي من حيث صناعة الحديث والأصول من حيث أقوال العلماء ثم بعد هذا أخذ يبين رأيه وترجيحه.

المقصود من هذا ليس رأيه وترجيحه، المقصود من هذا أن ننظر كيف جمع النظر في صناعة الحديث وعلم الأصول والنظر في النص الصريح والنص الفعلي والنظر في أقوال العلماء، وهذا كله مفقود.

ويأتيك أحياناً من طلبة العلم من لا يعرف إلا النتيجة ويظن أن الوصول إلى النتيجة هو العلم، والنتيجة قد ينالها الإنسان من فتوى، ولو كان هذا المسلك صحيحاً لكان آباؤنا وأمهاتنا علماء؛ لأنهم يقابلون المذياع ويسمعون فتاوى العلماء لكنهم لا يعلمون على أي أساس ركبت تلك الفتوى، وهؤلاء لا يمكن أن يسموا علماء ولا يمكن أن يسموا مفتين.

وأنت تريد أن تكون عالماً مفتياً، وهذا أمر جداتنا في البيوت يسمعن قول فلان من العلماء أن هذا حرام، فعلمها أنه حرام ينفعها في دينها لكن لا يدل على أنها عالمة؛ لأنها لا تعلم لم حرم ولا تدري الآلة التي توصل بها الشيخ إلى العلم، ولا الطريقة العلمية التي توصل بها الشيخ إلى أن الفتوى صحيحة أو غير صحيحة.

وهنا بعض الناشئة يبدأ بأخذ فتاوى العلماء ثم يأتيك يناقشك بناء على النتيجة، وهو لا يدري كيف وصل الشيخ إلى هذه النتيجة، وهذا كله قصور في الفهم وقصور في الطلب، ولا يمكن أن يكون به إنسان راسخاً في العلم.

ثم لابد أن يجمع الإنسان إلى هذا النصح لدين الله ولرسوله، فالنصح هو الذي من الله به على أنبيائه ورسله {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:٦٨] من أراد أن يطلب العلم ليظهر جماعة أو حزباً أو ينال مالاً أو يحيي أمراً شخصياً أو ما إلى ذلك فليترك العلم لأهله، وحتى لو وصل لا يمكنه أن يكون في دين الله ذا شأن، ولا يمكن أن يعطى إمامة دينية وفق المنظور الشرعي.

المنظور الشرعي يعطي الإمامة في الدين لمن يستحقها، لمن لا يريد بتعليمه للناس إلا وجه الله، ولا يريد بعلمه ولا بفتواه أن ينتصر لقول زيد أو قول عمرو أو الحزب الفلاني أو الجماعة الفلانية أو السلطان أو العامة، فكل هؤلاء يتجرد منهم.

ثم مما ابتلينا به في زماننا أنه يأتيك النشأ فيقول: أنا أدين الله بهذا.

وهو صادق في كلمة (أنا أدين الله بهذا) لكن

السؤال

هل أنت تملك الأهلية لأن تصل إلى هذا الحكم قبل أن تدين الله فيه؟ فالآن لابد من آلية، ثم الوصول إلى الحكم، ثم الديانة بهذا الحكم تأتي في الأخير، فهو يقرأ كتباً فإذا وصل إلى قول عالم من العلماء قال: هذا ما أدين الله به.

أو يأتي عالم نحرير فيقول بعد كلام طويل: هذا ما أدين الله به، فيأتي هذا الغر في مجلس تعجبه هذه الكلمة فيضع رجلاً على رجل ويقول في مسألة لا يعرف ما الأقوال فيها ولا يعرف الصناعة النحوية ولا الصناعة الحديثية ولا الصناعة الأصولية، ثم يقول لك: هذا ما أدين الله به! أنت صادق في قولك لكن ارفق بنفسك يا بني فليس هذا هو العلم، تعلم كيف وصل هؤلاء الأكابر حتى قالوا هذه الكلمة، ثم قالوا ديانة: هذا ما أدين الله به.

هذا وإن كان في قولنا بعض القسوة؛ لكن فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم إننا لأن يبغضنا الناس خير لنا من أن يحبنا الناس ونحن ننشئ جيلاً غير صحيح، هذه أمة محمد صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم).

فمن حق عامة المسلمين علينا أن يبين لهم الدين، ولذلك أنت ترى الآن القنوات أفرزت أقواماً تصدروا الفتوى وليسوا أهلاً للعلم.

قد يقول إنسان: إن هذه غيبة.

أقول: هذه ليست بغيبة؛ لأن الحفاظ على الدين أهم من الحفاظ على الأشخاص، وحرمة الدين أعظم من حرمة الأفراد، ثم إن القضية تتضح في أنه أحياناً يأتي شيخ يتكلم بالعامية، الكلام بالعامية لا نمنعه حسب حال المخاطب؛ لأن المقصود نشل الناس من الضياع، لكن هناك فرق كبير بين رجل ذي علم جم يدرك المسألة حقاً ثم يريد أن يقرب الأمر للعوام فينزل لهم بلغتهم، هذا لا ضير فيه؛ لكن يأتينا من لا يدرك المسألة ويقولها بالعامية ويظهر من كلامه أنه أصلاً لا يفقه المسألة، فهذه مصيبة على مصيبة، العامية ليست عيباً، لكن يظهر من كلامه أنه لا يفقه المسألة، فينجم عنه أن العوام يحبونه؛ لأن لغته قريبة من لغتهم، لكن حب العوام ليس شهادة على أنه عالم.

وأنا كنت في القاهرة قبل أيام فوضع لي أحد الإخوة في السيارة شريطاً لعالم أعلمه يتكلم باللهجة المصرية؛ لكن الرجل من كلامه ومن محاضرته يظهر لك أنه متمكن علمياً إلى حد كبير، مع أنه كان وقتها يتكلم باللغة العامية، فهذا الرجل العالم هو أبو إسحاق الحويني وفقه الله، وهو محدث كلامه كلام علمي وإن كان يقوله باللهجة المصرية لينفع الناس؛ لكن الرجل يتكلم كلاماً علمياً؛ لكن قد يأتي إنسان من أي بلد كان -سواء من بلادنا أو من غيرها- فيتكلم بالعامية ويسمع فتوى ثم يردد هذه الفتوى متكئاً عليها؛ لأن هذه الفتوى قالها عالم مشهور، وهو ليس له مستند إلا هذه الفتوى.

ثم يدخل مع هذه الفتوى أمور يريد أن يوصلها للناس، ولا يجوز شرعاً أن يتصدر مثل هؤلاء.

وينبغي الاعتناء بحرمة الدين والعلم، وهذا ناجم عما قلنا في الأول إنه لا يوجد تقوى ويوجد حب للدنيا، وهذان كفى بهما هلاكاً.

فحب الدنيا مهلكة، لكن الناس يفهمون أن حب الدنيا ألا تمشي مع السلطان، مع أنه قد يأتي إنسان يمشي مع الأمراء وليس في قلبه من دنياهم شيء إنما يريد النصح لله ورسوله، ويأتي إنسان يمشي مع الضعفاء والبسطاء وهو لا يريد إلا يسلط الأضواء عليه، ثم إذا سلط الأضواء عليها نال من وراء ذلك ما الله به عليم.

فالله جل وعلا أجل من أن يخادع، ويجب الإبقاء على حرمة العلم وحرمة الدين، والنظر الحق في كتب الأئمة من قبل، وإلا فإذا كان العلم أن يأتي الإنسان إلى الشاشات أو ما يسمى بالشبكة العنكبوتية ثم يضع اسماً ثم يفرز الأوراق التي جاءت على هذا الاسم ثم يحفظها ثم يقولها للناس: هذا علم؛ فعلى هذا يكون الناس كلهم علماء.

أنا أغلظت في هذا لكنها والله رحمة بنفسي وبمن يسمعني!

<<  <  ج: ص:  >  >>