للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[دخول مؤمني الجن الجنة]

المقدم: قبل أن نخرج من الكلام على الجن والحديث عنهم نذكر أن من المسائل التي تثار ما يتعلق بجزاء مؤمني الجن، وهل يدخلون الجنة أو لا؟ فنريد أن تؤصل لهذه المسألة ثم تبين القول الراجح فيها.

الشيخ: الله تعالى خاطب الجن والإنس بالإيمان والتكليف والعبادة، وهذا أظهرته هذه الآية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] لكن العلماء عندما يناقشون آية الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٢٩ - ٣١].

الذين قالوا: إن مؤمني الجن ليس لهم مكافأة على إيمانهم إلا غفران الذنوب والإجارة من النار ولا يتجاوزونه إلى دخول الجنة، حجتهم هذه الآية، فلو سألناهم: أين الحجة في الآية؟ قالوا: إن الله ذكرهم وذكر عملهم وهو الإيمان، وذكر ما يترتب على إيمانهم: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ} [الأحقاف:٣١]، فقوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ) جواب الأمر، فعلق على الإيمان مغفرة الذنوب والإجارة من النار دون دخول الجنة، فقالوا: لو كان الله قد كتب لمؤمني الجن أن يدخلوا الجنة لأوشك أن يذكروه، هذه عبارتهم.

هذا قول وهو رأي مرجوح.

هناك أقوال يقول عنها العلماء: إنها غريبة، لكن في منهجنا العلمي أننا نذكر كل شيء ولا يعني ذكرنا لقول أننا نرتضيه أو نقطع به أو نجزم بصحته، لكن من باب الأدب مع من يستقبل كلامنا أن يعرف كل شيء، وكذلك الأدب مع قائله.

بعض العلماء يقول -وينسب هذا إلى عمر بن عبد العزيز - إنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة، وإنما يكونون في أرجائها وأطرافها.

وقال آخرون: يدخلون الجنة لكنهم لا يمكنون من النظر إلى بني آدم، فبنو آدم يرونهم وهم لا يروا بني آدم، على عكس ما كانوا عليه في الدنيا وقطع آخرون بعدم الدخول بحجة أن الجن من ذرية إبليس؛ قالوا: إن إبليس كان سبباً في خروج أبينا وأمنا من الجنة فلا تدخل ذرية إبليس الجنة.

وقال بعضهم: يدخلونها لكنهم لا يطعمون منها، إنما يلهمون التسبيح.

وقد قلت قبل أن أسرد هذه الأقوال: إنها أقوال غريبة لا يوجد ما يعضدها.

والراجح: أن مؤمني الجن يدخلون الجنة، والأدلة على ذلك ساقها الحافظ ابن كثير رحمة الله تعالى عليه في تفسيره عند تفسير سورة الأحقاف، وقد أظهر قوله أموراً أهمها: سعة اطلاعه رحمه الله، وعلو كعبه في التفسير، وتجرده من الهوى، وهذه مطالب عالية تطلب في طالب العلم، فالإنسان إذا تصدر وكان يملك آلة وقدرة على البحث مع تجرد من الهوى قل أن يخذل، بل يكون إلى التوفيق أقرب، وإذا وفق نفع العباد.

ونحن سنرد جملة من الأدلة التي ذكرها الحافظ ابن كثير بإيجاز، فمنها: عموم قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:١٠٧] وأنت لبيب تعلم أن كلمة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يندرج فيها مؤمنو الإنس ومؤمنو الجن.

وأظهر منها أن الله قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:٤٦ - ٤٧] والآية تخاطب مؤمني الجن ومؤمني الإنس، والله قد وعد فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦] فوجه الدلالة: أنه لا يعقل أو لا يتصور أن يمن الله عليهم بفضل لن يحصلوا عليه، فإذا كان الله قد كتب أن مؤمني الجن لن يدخلوا الجنة، فأين المنة في الآية: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦]؟ هذا محرر.

ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الجنة يبقى فيها سعة فينشئ الله لها خلقاً، فمن باب أولى أن يدخلها مؤمنو الجن، لأنهم أولى ممن ينشئهم الله جل وعلا لها، وهذا لا يعني أن الله لم ينشئ لها أحداً.

وكذلك: إذا ثبت لدينا قطعاً أن الله يعاقب كافري الجن بالنار وهو مقام عدل، فمن باب أولى أن يكافئ ويثيب مؤمني الجن بالجنة وهو مقام فضل.

ثم إن قول الله جل وعلا: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٣١] ليس فيه دلالة على أنهم يمنعون من دخول الجنة؛ لأن الله ذكر مثل هذا عن قوم نوح: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح:٤] ولم يذكر فيه الجنة، ومعلوم قطعاً أن المؤمنين من قوم نوح مآلهم إلى الجنة.

هذا مجمل ما ذكره العلماء في قضية

<<  <  ج: ص:  >  >>