للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم إنظار المدين الذي لا يجد ما يسدد به دينه]

المقدم: لقد ذكرت أن الدين قدم على الوصية فقهياً؛ لكن المدين قد لا يجد ما يسدد به الدين، فما حكم إنظاره؟ الشيخ: أبدأ بقصة تاريخية غريبة: كان محمد بن سيرين رحمة الله تعالى عليه أحد أعلام التابعين، وكان يعبر الرؤى، وذات يوم أتاه رجل فقال: رأيت رجلاً مكشوف الساق وقد نبت الشعر في ساقه، فما تأويلها؟ قال رحمه الله: هذا رجل يركبه دين فيسجن فيموت في سجنه.

قال الرجل الذي يسأل: رأيتها فيك، فوقع ما عبره على نفسه، فركبه دين رحمه الله وسجن ومات في السجن، وفي فترة سجنه مات أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، فأوصى أن يغسله محمد بن سيرين، فأخرج من سجنه مؤقتاً للتغسيل والتكفين والصلاة على أنس، ثم عاد إلى سجنه، وتحقق تأويله فمات في سجنه.

قد يقول إنسان: ما علاقة ساق مكشوفة بالدين؟

و

الجواب

أن كشف الساق كناية عن الكرب في أحد أوجه التفسير في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:٤٢].

ثم أقول: القرض يكون إلى مدة معينة، فكان العرب إذا جاء الأجل ولم يجد المقترض شيئاً يسد به، قال له المقرض: إما أن تقضي وإما أن تربي، أي: أؤخر في الأجل وأزيد في المال، وهذا عين الربا الذي حرمه الله بقوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:١٣٠]، وأبدل الله جل وعلا المجتمع المسلم بقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:٢٨٠]، فيجب إنظار المعسر.

ثم قال الله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٨٠] والتصدق: أن تتنازل بالكلية، وهو مندوب.

وهذه إحدى حالتين في الشرع الندب أفضل فيها من الواجب، والحالة الثانية رد السلام، فإن الابتداء به مندوب إليه، والرد: واجب، لكن المبتدئ بالسلام أفضل من حيث الجملة.

النبي صلى الله عليه وسلم بين فضيلة من يقرض الناس ثم يتنازل، أو بتعبير أصح: من أعفى معسراً، يقول عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، حتى أتينا أبا اليسر -وهو صحابي اسمه كعب بن عمرو - فمن جملة ما تذاكروه مسألة الدين، فقال أبو اليسر رضي الله عنه وأرضاه وقد أسن يومئذ قال: فإني أبصرت عيناي وأشار إلى عينيه، وسمعت أذناي وأشار إلى أذنيه، ووعى قلبي وأشار إلى مناط قلبه، النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله تحت ظله).

هذا باب رحمة واسع جداً، فكثير من الناس قد لا يكون له حظ من العبادة من قيام ليل ومن صيام وحضور محاضرات، ويكون ذا مال، والإنسان الذي عنده مال يجلس الساعات حتى يحافظ عليه، فيدير تجارته ويقيم أموره، فتأتي هذه الأبواب رحمة من الله لهم في أن تقربهم من الله فيدركوا ما أدركه الذاكرون والقانتون والصائمون.

<<  <  ج: ص:  >  >>