للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[يسألونك عن الأنفال]

الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فهذه حلقة جديدة مباركة بإذن الله من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية، والآية التي نحن نتوج بشرف الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك: هي قول الله جل وعلا: بسم الله الرحمن الرحيم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:١].

بداية أيها المباركون نقول: النفل في لغة العرب: هو الزيادة، فيقال لولد الولد وهو الحفيد: نافلة، ومنه قول الله جل وعلا بعد أن ذكر منته على خليله إبراهيم بإسحاق: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:٧٢]، فذكر أن يعقوب عليه السلام كان نافلة لإبراهيم؛ لأنه ابن ابنه، كما أن النفل في الصلوات المكتوبة: ما زاد على الفريضة.

أما النفل في الحروب: فهي تلك الغنائم التي يكتسبها الجيش ويحصل عليها إذا انتصر؛ لأن المقصود بالحرب أولاً هو النصر، ثم إذا كانت هناك غنائم فتلك الغنائم يطلق عليها أنفال، وسورة الأنفال سورة مدنية، وقد نزلت في أعقاب معركة بدر، وقد وقع بعد معركة بدر: أن المسلمين غنموا أموالاً وأسرى، وكانت أول غنيمة يغنمها المسلمون، فلم يكن لهم عهد في كيفية توزيعها بينهم، فحصل بينهم شيء في قضية: لمن تكون الغنائم؟ ففزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إن هذه الأمة هي أقل الأمة سؤالاً أي: من سائر الأمم، وقد ورد في القرآن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:١٨٩]، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:٢١٥]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:٢١٧]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:٢١٩]، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة:٤]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف:١٨٧]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:٨٥]، وههنا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:١].

فكيف جاء الجواب القرآني؟ هذا ما نريد أن نميط اللثام عنه بيانياً في هذه الحلقة: يقول الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:١]، أي: أن الصحابة الذين شهدوا معك بدراً يسألونك عن الأنفال فبماذا تجيبهم أيها النبي الكريم: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:١]، أي: أن الأنفال لله والرسول يحكمان فيها بما شاءا ويضعانها حيث أرادا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:١]، فاجتماع كلمتكم وبقاء ألفتكم وتوحد صفوفكم هو الغاية العظمى، وهو الأمر المطلوب، وليست القضية قضية أنفال وغنائم، فإذا وجدت التقوى وجد التسليم، وإذا وجد التسليم رضي المرء بما آتاه الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.

وهذا في الحديث عن ذلك المجتمع المدني، أما الآن فلا نقول: آتاه الله ورسوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ميت، لكن نقول هنا: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:١]، فانظر أيها المبارك! لهذا التأديب القرآني الإلهي لهذه الفئة المباركة التي شهدت بدراً، وهذه الآية المبينة لكيفية توزيع الغنائم جاءت بعد أربعين آية من قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:١]، فهي الآية الأولى من صدر سورة الأنفال، أما قول الله جل وعلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:٤١]، فهذه الآية تبين الكيفية التي توزع بها الغنائم، والطريقة المثلى التي توزع بها الغنائم، وأنت تلحظ إذا تدبرت القرآن أن مسألة الأموال كالمواريث، والصدقات كالغنائم، تكفل الله جل وعلا وحده بها ولم يتركها لأحد من خلقه، فالله جل وعلا هو الذي وزع المواريث وهو الذي قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:٦٠] وحدد أهلها، وهو الذي قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:٤١]، فهذا يدل على أن مسألة الأموال لها شأن عظيم، والناس تختصم في ثلاثة أمور: في أموالها، ودمائها، وأعراضها، أي: في فروجها، أما غير ذلك فلا يوجد تخاصم، وعلى هذا تكفل الله جل وعلا ببيانها في المواريث والصدقة والأنفال، والذي يعنينا: أن ننظر لذلك الأدب القرآني، ولتلك الفئة المباركة، فإن الرب تبارك وتعالى يقول: يا أيها الأصحاب! الذين امتن الله جل وعلا عليهم بأن شهدوا بدراً، وهو أعظم لواء في التاريخ الإنساني كله، راية تحتها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وخير الملائكة جبريل، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسادة المهاجرين، وسادة الأنصار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فئة من الأوس وفئة من الخزرج، فلا توجد راية في التاريخ أعظم من تلك الراية، فالله يقول لهؤلاء المباركين من أصحاب بدر: لا ينبغي أن تنشغلوا بالغنائم كيف توزع، وأن تكون جل همكم، لكن ينبغي أن تعتنوا كثيراً بقضية إصلاح ذات البين، والأخذ بزمام التقوى، ثم بعد أن بين الله لهم ذلك وقبلوه رضي الله عنهم وأرضاهم، واطمأنت نفوسهم، جاء البيان الشافي الكافي الوافي في بيان كيفية توزيع الغنائم، قال الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين} [الأنفال:٤١].

والقرابة هنا -هذا من باب الاستطراد- هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب، أما قرابته من بني هاشم فظاهره أنهم من أهل الغنائم، أما بنو المطلب فإن المطلب هذا أخ لـ هاشم، فلا يعد أنه من بني هاشم لكن يعد من آل البيت؛ لأنهم قدر لهم برحمة الله لهم أنه كان مؤمنهم وكافرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب عندما حاصرتهم قريش في الشعب، فقال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في إحدى غزواته -لما سئل عن إعطائه لبني المطلب دون غيرهم ممن يوافقهم في النسب ويماثلهم في القرابة- قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه)، وبهذا أخذ جمهور العلماء في أن لهم حظاً من الغنائم، وأنه لا تجوز عليهم الصدقة أسوة بآل البيت، إذ عدو من آل البيت لهذا الخبر النبوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والذي يعنينا بعد ذلك كله: أنه تبين لك -أيها المبارك- في إماطة اللثام: أن الله جل وعلا خاطب المؤمنين أولاً بما يصلح حالهم، ويقيم شأنهم، ثم بعد أن دعاهم إلى الألفة بين لهم الطريقة المثلى في توزيع الغنائم.

هذا -أيها المباركون- ما تيسر إيراده، وأعان الله جل وعلا على قوله، حول قول الله الرب تبارك وتعالى في فاتحة سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:١].

جعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وهدانا الله وإياكم إلى السبيل الأقوم، والطريق الأمثل، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

<<  <  ج: ص:  >  >>