للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما تدري نفس ماذا تكسب غداً

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسموات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ختم الله به الرسالات، صلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والمروءات.

وبعد: فهذه حلقة جديدة مباركة بإذن الله من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية، وسنتكلم عن قول الله جل وعلا في خاتمة سورة لقمان: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٣٤].

معلوم -أيها المباركون- أن العلم من أعظم صفات الرب تبارك وتعالى، وقد قال أهل السنة -سلك الله بي وبكم سبيلهم- في تعريف علم الله جل وعلا: إن علم الله علم لا يسبقه جهل، ولا يلحقه نسيان، قال الله جل وعلا حكاية عن عبده موسى لما سأله فرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:٥١] قال موسى مجيباً: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:٥٢]، فذكر الله جل وعلا أن الغيب علمه كله عنده، وقال جل وعلا في آية مجملة في سورة الأنعام: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:٥٩]، وفي هذه الآية المباركة من سورة لقمان تفصيل لما أجمله الله جل وعلا في سورة الأنعام، فآية الأنعام لم تحدد تلك المفاتح، لكنها في سورة لقمان جاءت ظاهرة بينة محصورة في خمس.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤].

نقول ابتداء: الذي نريد أن نميط اللثام عنه في هذه الآية المباركة: هو قول الله جل وعلا: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:٣٤]، ف

السؤال

لماذا اختير اللفظ (تكسب) دون غيره من الألفاظ؟ نقول: الله جل وعلا هنا يبين في أسلوب حصر أن مفاتيح الغيب عنده، فعنده علم الساعة، لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وقد سأل خير الملائكة جبريل خير الرسل محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: (أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، أي: أن علمي وعلمك فيها سواء، ثم قال الله جل وعلا: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:٣٤] والغيث: المطر، ويراد به هنا: موضع الرحمة، ولا ريب أن الناس قد يقولون في زماننا: إننا إذا رأينا السحاب غلب على ظننا أن هناك مطراً، وهذا لا يعد غيباً؛ لأن السحابة قد أظلتك وأزف اقتراب نزولها، لكن مع ذلك قد ترحل عنك دون أن يكون لك منها نصيب.

وهذا ظاهر بين، لكن الذي يعنينا: أن الغيث وليس في السماء قزعة من سحاب لا يمكن أن يجزم أحد أو يقول أحد ذو عقل: أن هناك غيثاً آتياً، هذا أمر لا يعلمه إلا الله.

قال الله جل وعلا: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:٣٤]، والأرحام: هي ذاك المستقر والوعاء الذي جعله الله جل وعلا مستقراً للجنين بعد مروره بمرحلة النطفة، قال الله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:١٣]، (ويعلم ما في الأرحام) كلمة ما هنا: موصولة يدخل تحتها الكثير مما يعلمه الرب تبارك وتعالى ذكراً كان أو أنثى، شقياً كان أو سعيداً، فقيراً كان أو غنياً، طويلاً في عمره أو قصيراً، يولد ناقصاً أم كاملاً، أمور عدة لا يمكن إحصاؤها تدخل في قول الله جل وعلا: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:٣٤].

فإن قال لك قائل واحتج عليك محتج: بأن الأشعة الحديثة دلت على كون الطفل أو الجنين وهو في بطن أمه يمكن أن يعلم أذكر هو أم أنثى، ف

الجواب

أن هذا ظاهر، فبتلك الأشعة انتقلت المسألة من علم غيب إلى علم شهادة، فإن الإنسان عندما يقول: هذا الجنين ذكر، أو يقول: هذا الجنين أنثى إنما يرى شيئاً عياناً، فهو إن رأى آلة الذكورة حكم به على أنه ذكر، وإن لم يرها حكم على أنه أنثى، فليس في المسألة ضرب في الغيب، ثم قال الله جل وعلا وهذا هو موضع الشاهد: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:٣٤]، أنت ترى وربما تعمل -أيها المبارك- فيما يسمى: بجدول أعمالك، يكون لك جدول أعمال من خلاله تنظم أوقاتك، تضرب موعداً فتقول: الساعة كذا عندي موعد، الساعة الفلانية عندي لقاء، لدي البرنامج الفلاني، سأستقبل زيداً بعد ثلاثة أيام، هذا كله لا يدخل في مسألة علم الغيب، لكن تحصيل ذلك ووقوعه والإتيان به هو الذي لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى، فكم بيت المرء أعمالاً يريد أن ينجزها فحال دون ذلك الأجل، أو حال دون ذلك المرض، أو حال دون ذلك السهو، أو حال دون ذلك النوم، أو حال دون ذلك شيء آخر، والله يحول بين المرء وقلبه.

فانظر يا أخي! إلى عظمة تعبير القرآن، فإن الله يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:٣٤] ولم يقل الله ولا نلزم على الله: وما تدري نفس ماذا تريد أن تعمل غداً، فإن الإنسان قد يقول: أريد أن أعمل غداً كذا وكذا وكذا، وقد يتحقق هذا بإذن الله ومراده، ثم ختم الله جل وعلا خامسة المفاتيح بقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤]، ومن جهل بما كان من باب أولى أن يجهل ما يكون، والله جل وعلا أخفى حقيقة الموت ووقته عن كل نفس، وربما كان قبل ذلك إشارات كرؤيا، أو كان قبل ذلك مرض يظهر من أعراضه أنه مرض مخيف، أو مرض موت، وقد يكون بعده نجاة، وقد يكون غير ذلك، لكن من حيث الجزم والقطع هذه مسألة لا يعلمها إلا الرب تبارك وتعالى، فكم من رجل أشرف على الهلاك فنجا، وكم من رجل في نجاة هلك، والله وحده بيده مقاليد كل شيء، ولا يمكن لنفس أن تموت إلا كما قال الله: {بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:١٤٥]، ولهذا ختم الله جل وعلا هذه الخمس المباركات بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٣٤].

وعلم الله -كما قلت في أول الأمر وبه أنهي- لا يسبقه جهل، ولا يلحقه نسيان، فإذا علم العبد هذا -وهذا بيت القصيد- خاف من ربه، وازدلف إليه، وفجع إليه، خاصة إذا علم وتيقن أن الله عالم الغيب فيتوكل على الله؛ لأن الله جل وعلا عالم بالغيب يختار لك الخير إذا أنت لجأت إليه، واستعنت به، وسألته جل وعلا من فضله.

وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني؟ أللخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني؟ نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يدفع عنا وعنكم من السوء أكثر مما نخاف ونحذر، وأن يكتب لنا من الخير أكثر مما نرجو ونأمل.

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، سائلين الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وصلى الله على محمد وعلى آله.

والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

<<  <  ج: ص:  >  >>