للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أقسام الناس تجاه زينة قارون]

كان ذلك وهم، هم في أرض التيه ضائعين، لكنه أراد أن يبين قدرته، قال الله عنه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:٧٩] يعني: في أبهته وكمال ما آتاه الله، فرآه الناس فانقسم الناس فيه إلى فريقين: أهل علم يعرفون الله والدار الآخرة.

والفريق الثاني -وهو شأن أكثر الناس-: تعلقوا بالدنيا لما رأوا نموذجاً لها، قال الله جل وعلا: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:٧٩] أي: إنه محظوظ وذو نصيب عظيم ناله بما رأوا فيه، وهذا يحدث لنا جميعاً، فعندما يرى الإنسان من هو أكثر منه مالاً أو ولداً أو جاهاً أو منصباً أو يركب سيارة أفضل من سيارته أو غير ذلك فيقع في نفسه أن يكون مثل ذلك.

والذي يردع هذه النفس أن تتذكر أن النعم والفضل بيد الله، وأن الله لم يجعل الدنيا نعيماً لأحد، ولا يعني أن من لم ينعم الله عليه أن الله غاضب عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن يحب).

قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [القصص:٨٠]، كلمة: العلم نور قد تكون كلمة مبتذله وكل الناس تقولها، لكن لا يمكن الزيادة عليها، فهؤلاء القوم العلم الذي في صدورهم جعل عليهم نوراً فقالوا كما قال الله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:٨٠] أي: هذا الذي تبتغونه خير منه ثواب الله، وثواب الله لا يدرك إلا بالإيمان والعمل الصالح، {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:٨٠] أي: هذه المراتب العالية والمنازل الرفيعة والدرجات التي أعدها الله لخيار عباده من أعظم الطرق للوصول إليها: الصبر.

والصبر ينقسم إلى قسمين: صبر لله وصبر لغير الله.

أما الثاني: فإن الإنسان إذا صبر لغير الله لابد أن ييئس؛ لأنه لا يوجد أحد قادر على أن يعطيك حتى يرضيك، ولذلك يدب إليك اليأس، فإذا دب إليك اليأس فررت من الشيء الذي أنت صابر من أجله.

الحطيئة شاعر جاور أقواماً يريد نوالهم وعطاءهم، فلما تأخروا عليه جاءه أبناء عمومة للأولين وطلبوه أن يرتحل إليهم؛ لأنه شاعر يريدون أن يشتروا لسانه، وكان كل مرة يتريث ويقول: لما بعد، فلما لم يجد خيراً عند هؤلاء ارتحل، وعندما ارتحل أصبح الأولون يلومون الآخرين على أنهم أخذوه، وصار بينهم شجار فقال الحطيئة قصيدة طويلة منها: لما بدا لي منكم غيب أنفسكم ولم أر لجراحي منكم آسي آسي يعني: طبيب.

أزمعت يأسا مبيناً من نوالكم ولن ترى طارداً للحر كاليأس الحر لا يطرده شيء مثل اليأس، فاليأس يجعلك ترتحل من أي أحد تقف بين يديه طلب علم أو طلب مال أو طلب أي شيء، فمن صبر لغير الله لابد أن يدب إليه اليأس؛ لأنهم مخلوقون لابد أن يظهر عليهم الضعف.

الصبر الثاني: صبر لله، فمن صبر لله فلن يدب إليه يأس؛ لأن الذي عند الله أمر مضمون، وأعظم مما في أيدي الخلق، بل لا مقارنه بينهما أصلاً، ولهذا قال الله لنبيه في أول الدعوة {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:٧]، فإن صبرت من أجلنا ستعان على الدعوة وإذا أعنت عليها لن يدب إليك اليأس، ولهذا قال المكلوم يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧].

من ازداد علماً بالله لا يمكن أن يدب إليه اليأس مثقال ذرة، فإذا ضعف العلم بالله تبارك وتعالى يمكن أن يصل بعض اليأس إلى القلوب، جعلنا الله وإياكم ممن لا ييأس من رحمته ولا يقنط من روحه.

<<  <  ج: ص:  >  >>