للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خطبة المسجد الحرام - ٢١ شعبان ١٤٣٢ - القمر أحكام وآداب - الشيخ سعود الشريم

الخطبة الأولى

الحمد لله فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام: ٩٦]، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [لقمان: ٢٩]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وخِيرتُه من خلقه، دعا إلى سبيل ربه بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة وجادلَ بالتي هي أحسن، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي - بلزوم تقوى الله حقَّ التقوى، والاستمساك من الإسلام بالعُروة الوُثقى، أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس: ٦٢، ٦٣].

عباد الله:

مخلوقٌ عظيمٌ من مخلوقاتِ الله، له وقعٌ في نفوس العباد، وفيه إطلالةٌ ونورٌ يُشعِلان الحياةَ في وجودنا، كما أنه آيةٌ من آيات الله الظاهرة، ذكره الله في كتابه سبعًا وعشرين مرةً، وأقسم به في ثلاثة مواضع من كتابه الكريم، وسُمِّيت سورةٌ كاملةٌ باسمه، هو مضرِبُ الأمثال في تحريك مشاعر الحزن والبهاء والوصف والجمال، للشعراء معه غدوةٌ ورَوحة، فيه من صفات الإنسان مرحلةُ تكوينه؛ حيث يبدو وليدًا، فلا يزالُ ينمو إلى أن يتمَّ ويكتمل ليتلقَّى سنةَ الله في النقصان بعد الكمال والأُفول بعد الظهور والبُروز.

وللهِ ما أشدَّ فقدَه في الليلة الظلماء؛ إذ في الليلة الظلماء يُفتقَد البدر، إنه القمر - عباد الله -، القمر الفاضلُ على سائر الكواكب، والذي يُشيرُ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من موضع من سنته حالةَ التفضيل بين الأشياء، وذلك بقوله: «كفضل القمر على سائر الكواكب».

نعم؛ إنه القمر الذي يُذكِّرنا بالوجوه الناضرة التي هي إلى ربها ناظرة وذلك يوم القيامة؛ حيث يقول جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوسًا، فنظر إلى القمر ليلةَ البدر - ليلةَ أربع عشرة -، فقال: «إنكم سترون ربَّكم كما ترون هذا لا تُضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»، ثم قرأ هذه الآية: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه: ١٣٠]؛ رواه البخاري ومسلم.

أيها المسلمون:

قلوب العباد مُشرئبَّة، وعيونهم مُحدِقةٌ بلَهَف المُشتاق ولوعَة الفاقد، مُشرئبَّةٌ لانبثاق هلال رمضان الوليد الذي سيُطِلُّ عليهم بعد أيامٍ معدودة، يترقَّبون ذلك الوليد ليُؤذَنوا بشهرٍ له في مجتمعهم تأثير، وفي نفوسهم تأديب، وفي مشاعرهم إيقاظ.

يترقَّبون ذلك الوليد بعد أن ظلُّوا أحدَ عشر شهرًا وهم سائرون في مسالك الحياة ودروبها، ينالون منها وتنالُ منهم.

فيا لله العجب؛ كيف أودع الله في هذا المخلوق من العِبر والحِكم ما لو استشعرَ العبدُ أثرَه وقيمتَه وتتبَّع أسراره لوجدَ ما يهديه إلى زيادة المعرفة بربه وقدره حقَّ قدره، وكيف أن الله أقسم به فقال: كَلَّا وَالْقَمَرِ [المدثر: ٣٢]، وقال: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا [الشمس: ٢]، وقال: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [الانشقاق: ١٨].

إن الله لا يُقسِم إلا بشيءٍ عظيم، وله - سبحانه - أن يُقسِم بما شاء من مخلوقاته وليس للبشر ذلك، فليس لهم الحلِفُ إلا بالله، ولا القسَم إلا بالله، وأن من حلَفَ بغير الله فقد كفرَ أو أشركَ، كما صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق - صلوات الله وسلامه عليه -.

لقد كتب الله على القمر إهلالاً ثم إبدارًا ثم أُفولاً، وهذه سنة الله في الأشياء: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: ٣٩]؛ لأن لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانًا ونهاية، وهذه حالُ الناس؛ فدوامُ الحال من المُحال، وكل اجتماع فإلى افتراق، والدهرُ ذو فتحٍ وذو إغلاق، فقد جاء في "الصحيح" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن حقًّا على الله ألا يرفعَ شيئًا من الدنيا إلا وضعَه».

فعلامَ إذًا ينتشِي المرءُ ويُصيبُه الزُهُوُّ والغرور والإعجابُ بالنفس وهو إلى الزوال صائر، وإلى الأُفول سائر، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: ٢٦، ٢٧]، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: ٥٨].

اُرقُب زوالاً إن تكن حُزتَ العُلا فالشيءُ يهوِي بعد أن كان ارتفع

ما طارَ طيرٌ مرةً نحو السما مُستمتِعًا إلا كما طار وقع

إن مما ألجَمَ به الخليلُ - عليه السلام - أفواهَ قومه في عبادةِ غير الله أو الإشراك به أن جعل القمر علامةً على وحدانيته - سبحانه -، وأنه مُستحقٌّ للعبادة وحده دون سواه، وذلك حين قال عنه: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام: ٧٧]، ومَن مَصيرهُ الأُفول فهو ليس مُستحقًّا للعبادة، فـ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥].

أيها المسلمون:

أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث أنس - رضي الله عنه - أن أهلَ مكة سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُريَهم آيةً، فأراهم القمرَ شِقَّين، حتى رأوا حِراء بينهما، وقد قال الله - جل وعلا -: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: ١]، فكان حادثُ الانشقاق من مُعجِزاته - صلى الله عليه وسلم - ودلائل نبوَّته وهو الصادق المصدوق.

عباد الله:

إن الله - جل وعلا - جعل للعبادات أوقاتًا زمانيةً وأوقاتًا مكانية، وقد احتلَّ القمرُ جزءًا كبيرًا من الأوقات الزمانية؛ كالحج في قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة: ١٩٧]، وكالصوم في قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: ١٨٥]، وغير ذلكم من المواقيت الزمانية المرهونةِ بالأهِلَّة ومنازلِ القمر؛ كالعِدَد، وأيام البِيض، وغيرها.

والتوقيتُ القمريُّ هو مما امتنَّ الله به على أمة الإسلام وجعله من خصائصها؛ حيث كانت الأمم السابقة تعتبِر ميقاتها وأعوامَها بالسنة الشمسية وهي تزيدُ على القمرية بأحد عشر يومًا، ومنه قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف: ٢٥]، فثلاثمائة بتقدير الشمس، وثلاثمائة وتسع بتقدير القمر، وكان ميقاتَ العرب قبل الإسلام هو القمر خلافًا لمن سواهم، فوافقَ الإسلامُ هذا التوقيتَ ووجَّهَه.

وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنا أمةٌ أمِّية لا نكتُب ولا نحسِب، الشهرُ هكذا وهكذا» - يعني: مرةً تسعةً وعشرين، ومرةً ثلاثين -؛ رواه البخاري ومسلم.

وبعدُ، أيها الناس:

فإن القمر آيةٌ من آيات الله يُخوِّفُ الله به عبادَه بخُسوفه في الدنيا وخُسوفه في الآخرة، كما قال تعالى: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لَا وَزَرَ (١١) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة: ٧ - ١٢].

هذا هو القمر - عباد الله -، وتلكم بعض المُلَح والطرائف والحِكَم التي أودعها الله هذا المخلوق العظيم، والله - جل وعلا - يقول: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان: ١١]، ولذا فإن من العيب كل العيب الاستهانةَ به، ومن الانحرافَ المشين التوقيتَ والتأريخ بغيره، كما أن من الخطأ تنشِئَة الصغار على التعلُّق بالرسوم، سواء كانت ثابتةً أو متحركةً والتي يُبرِزون من خلالها القمرَ وله عينان وأنف ونحو ذلك، أو أن له فمًا أو أنه يضحك ويبكي، فهو آيةٌ من آيات الله لا يجوز امتهانُها والاستخفافُ بها، إنما هي للاعتبار واستشعار عظمة الله وقدرِ الخالق حق قدره، فالله - جل وعلا - يقول: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: ٢]، وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: ٣٧].

وقد وقع في قديم الزمان وحديثه لدى بعض الأمم والشعوب اعتقاداتٌ خاطئةٌ في القمر خرجوا بها عما خلقه الله من أجله؛ فمنهم من ظنَّ أن يخسِف لموت أحدٍ أو حياته، وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في قصة الكسوف حين ظنَّ بعضهم أن الشمسَ كسَفَت لموت ابنه إبراهيم.

وقد كان المُنجِّمون والسحَرة والمُشعوِذون قديمًا وحديثًا يُقحِمون القمر في أمور الناس؛ فقد ذكر شيخ الإسلام وغيره أن عليًّا - رضي الله عنه - عندما أراد المسيرَ لقتال الخوارج عرضَ له مُنجِّم، فقال: يا أمير المؤمنين! لا تُسافر والقمر في العقرب، فإنك إن سافرتَ والقمر في العقرب هُزِم أصحابُك، فقال: "بل نُسافر ثقةً بالله، وتوكُّلاً على الله، وتكذيبًا لك"، فسافر فبُورِك له في ذلك، حتى عامةَ الخوارج.

وقد يعجبُ بعضُنا حينما يعلم أن دراساتٍ نفسية مُعاصرة لدى غير المسلمين كوَّنوا منها اعتقادًا باطلاً، وهو أن للقمر تأثيرًا على مِزاج الإنسان، وأن الجرائم تزداد عندما يكون بدرًا، ويُعلِّلون لذلك - تعسُّفًا منهم -: أن القمر له علاقةٌ بمدِّ البحار وجزرها، فكذلك الإنسان؛ لأن الماء يُمثِّل ثمانين بالمائة من وزنه.

ويزداد العجبُ - عباد الله - حينما يغترُّ بعضُ المسلمين بذلكم، ويُطوِّع النصوصَ الشرعية لتُوافقُ اعتقادًا خرافيًّا أبطلَه عُقلاءُ أولئك القوم، فكان من تطويع بعض المُغترِّين من المسلمين لهذه النصوص أن ربطَ بين الحكمةِ من صيام أيام البِيض وتأثير القمر على الإنسان حالَ الإبدار؛ وذلك للإقلال من الجرائم.

معاذ الله! مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [ص: ٧]، وما القمرُ إلا خلقٌ من خلق الله يسجدُ له كما يسجدُ بنو آدم: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: ١٨].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

وبعد:

فقد ذكر جمعٌ كثيرٌ من أهل التفسير: أن بعض الصحابة سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: ما بالُ الهلال يبدو دقيقًا، ثم يزيد حتى يستويَ ويستدير، ثم ينتقِص حتى يعود كما كان؟ فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: ١٨٩].

ولنا وقفةٌ مع هذه القصة؛ لأن فِئامًا من الناس ممن لم يبلُغ نورُ الوحي مبلغَ اليقين في نفوسهم، فادَّعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حادَ عن الجواب في ذكر تفاصيل الهلال وولادته وتكوينه، وأن سبب ذلك كونه أُمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتُب، فلم يذكر من الجواب إلا أنها مواقيتٌ فحسب.

والأدهى من ذلكم - عباد الله - أن هناك من الْتاثَ بدخَنٍ من هذه اللَّوثَة فرأوا أن الرؤيةَ الشرعيةَ لا تتفق مع الحساب، وأنها ظنٌّ ونقصٌ أمام الوسائل العصرية، في حين إن الحساب يقينٌ في الدقة والصحَّة!

والجواب: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عاجزًا عن التفاصيل وإن كان أُمِّيًّا، فهو يُوحَى إليه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يُخبِر بما هو أعظم من ذلكم، فقد وصف السماوات السبع ومن فيها من الأنبياء في قصة الإسراء، ونعتَ المسجدَ الأقصى كما هو.

وإنما كان جوابُه - صلى الله عليه وسلم - مُختصرًا؛ لكون رسالة أمته وحاجتها للعبادة والطاعة، وللأثر الفعلي للأهِلَّة لا النظري كانت الإجابة أنها مواقيت للناس والحج، فهذا هو ما ينفعهم فيها.

ومن ادَّعى أن في جوابه مخالفةً لما في علوم الفلك فقد أعظمَ على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الفِرية، فكتابُ الله - جل وعلا - أكبرُ من أن يكون كتابًا فلكيًّا أو كيميائيًّا أو فيزيائيًّا، كما يُحاول بعضُ المُتحمِّسين أن يقصُروا همَّتهم في الخوض فيها بعيدًا عن كونه هدايةً ونورًا ونجاحًا، ولربما وقعوا بسبب ذلكم في محاذير ثلاثة:

أولها: التراجُع النفسي الذي يُخيِّل إليهم أن العلم هو المُهيمِن على القرآن، وأن القرآن تابعٌ له، فيُحاولون تثبيتَ القرآن بالعلم وإن كان القرآن خلافه، وهذه طامَّةٌ كبرى.

وثانيها: سوء الفهم لحقيقة القرآن ورسالته، وأن حقيقته نهائيةٌ لا تقبل التغيير والفحصَ؛ لأن قائلها هو الذي لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.

وثالثها: الوقوع في التأويل المُتعسِّف، والتكلُّف في توجيه نصوص القرآن بمعلوماتٍ ونظرياتٍ مُستجِدَّة قد تنسخُها أخرى لاحِقة، وهذا لا يعني بداهةً عدم الانتفاع بالمُستجدَّات العلمية في توسيع مدلول الآيات وإظهار إعجازها؛ لتكون هي تابعةً للقرآن لا العكس.

كما أنه ينبغي لنا بهذه المُناسبة أن نُؤكِّد على سعة الصدر فيما يتعلَّق بالحديث عن الأهِلَّة، وألا يكون اختلافُ المطالع سببًا للتنازُع والتدابُر، وأن يُؤخَذ الأمر على العفوية والاجتهاد المُوصِل إلى الهدف المنشود، وأن نتَّقِيَ الجدالَ العقيمَ دون لغطٍ أو تناوُشٍ مذموم؛ فالرؤيةُ أصلُها شرعي، وينبغي ألا يكون هذا الأصل مانعًا من أي استفادةٍ من المُستجدَّات التي لا تنقُض ذلك الأصل ولا تُعارِضُه؛ كالمُكبِّرات البصرية، والحساب المُعين على تحقيق الرؤية، وبذلكم تتفق وجهاتُ النظر، ويقلُّ الخلاف، وتقصُر المسافة.

وقد روى مسلم في "صحيحه" عن كُريبٍ، وفيه: أنه رأى الهلالَ بالشام ليلةَ الجمعة، ثم لما قدِم المدينة في آخر الشهر سأله عبدُ الله بن عباس - رضي الله عنهما - عن الهلال فأجابَه بما رأى، ثم قال ابن عباس: "لكنا رأيناه ليلةَ السبت، فلا نزالُ نصوم حتى نُكمِل ثلاثين أو نراه"، ثم قال: "هكذا أمرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".

فللهِ ما أحكمَ أولئك، وما ألطفَهم مع بعضهم البعض؛ فقد اختلفَت الرؤيةُ لديهم فلم تختلف قلوبهم، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠].

هذا؛ وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].

اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم بلِّغنا شهر رمضان، اللهم بلِّغنا شهر رمضان، اللهم ارزُقنا صيامَه وقيامَه وتلاوةَ كتابك آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].

سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

<<  <   >  >>