للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خطبة المسجد الحرام - ١٩ رمضان ١٤٣٢ - التوبة والعشر الأواخر من رمضان - الشيخ صالح بن حميد

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله وهو الكريم أسبغَ علينا نعمَه باطنةً وظاهرةً، والحمد لله وهو الرحيم لم تزَل ألطافُه علينا مُتظاهرة، والحمد لله وهو العزيز ذلَّت لعزَّته رِقابُ الجبابرة، أحمده - سبحانه - وأشكره وهو الشكور دامَت علينا نعمُه مُتكاثرةً مُتوافرةً مُتواترة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُنجِي صاحبها في الدار الآخرة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله المُؤيَّد بالآيات الكُبرى والمُعجِزات الباهرة، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله العِترة الطاهرة، وعلى أصحابه النجوم الزاهِرة، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فكفى بالله مُحبًّا ومحبوبًا، وكفى برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قدوةً ومتبوعًا، وكفى بالقرآن مُؤنِسًا ورفيقًا، وكفى بالموت واعِظًا، وكفى بخشية الله علمًا.

علامة الدين: الإخلاص لله في السر والعلَن، وعلامة الشكر: الرضا بالقضاء والقدر، وعلامة الحب: كثرة ذكر المحبوب؛ فاتبع - يا عبد الله - ولا تبتدع، وتواضَع ولا ترتفع، ومن ورِع لا يتسع، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ [القصص: ٦٠].

أيها المسلمون:

استقامةُ النفوس وإصلاحُها، وتزكيةُ القلوب وتطهيرها مسالكُ تفتحُ أبوابَ الأمل من أجل حياةٍ أفضل ومسيرةٍ أزكى، النفوس لا تُحقِّق عزَّتها، والقلوب لا تُحصِّل سكينتَها إلا إذا تذلَّلَت لربها راضية، وخضعَت لخالقها راغِبة، وأقبلَت على مولاها خائفة، وسارَت إليه مُشفِقةً وجِلة؛ لتنالَ الأمنَ وتذوقَ لذَّة المناجاة، وحينئذٍ تطمئنُّ النفوس، وتنشرِحُ الصدور، وتستنيرُ القلوب، فالله - سبحانه - عند المُنكسِرة قلوبهم، الصادق تذلُّلهم.

أيها المسلمون، أيها الصائمون:

وهذه وقفةٌ مع عبوديةٍ من أحب العبوديات إلى الله وأكرمها عنده، عبوديةٌ تُنتِجُ للعبد آثارًا عجيبة من المقامات والمنازل، تُنتِج المحبة والرِّقة والانكسار والحمدَ والرضا والشكرَ والخضوعَ لله - عز وجل -.

عبوديةٌ قال فيها أهل العلم: "إنها من مهمات الإسلام وقواعده ومقاماته المتأكدة".

منَّةٌ من الله ونعمة لا تدَع ذنبًا إلا تناوَلَته، ولا معصيةً إلا محَتها، ولا تقصيرًا إلا جبَرَته، هذه العبودية وهذه المنَّة الإلهية والمنحةُ الربانية نهرٌ نميرٌ طاهرٌ يتطهَّرُ به العبدُ من أدرانه، إنها التوبة - يا عباد الله -، إنها العودة الغانمة، والتجارة الرابحة، والرياضُ التي لا يذبُلُ زهرُها.

التوبة - تقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم - رجوعٌ إلى الله بالتزام فعل ما يحب باطنًا وظاهرًا، وترك ما يكره باطنًا وظاهرًا، دعاءٌ وتضرُّع وتذلُّل وإقرارٌ بحول الله وقوته، وقدرته ومشيئته، وعدله وحكمته، وفضله ورحمته، واعترافٌ بالضعف البشري والتقصير والحاجة.

التوبة - أيها التائبون -: ترك الذنب علمًا بقُبحه، وندمًا على فعله، وعزمًا على عدم العودة إليه، وتدارُكًا للأعمال الصالحة من غير تردُّدٍ أو انتظارٍ أو يأس، في إخلاصٍ لله وما عنده من عظيم الثواب وخوفٍ من أليم العقاب.

إخوة الإيمان:

وكل عبدٍ مُحتاجٌ إلى التوبة، مُفتقِر إلى الإنابة، فلا يُتصوَّر أن يستغنِي عنها أحد مهما بلغَ مقامُه، ومهما كانت طاعتُه وصلاحُه؛ بل هي خُلُق الأنبياء والمرسلين، فهي تُصاحبُ البشرية منذ أبيهم آدم - عليه السلام -: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: ٣٧]، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٣].

ونبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة».

معاشر الصائمين والصائمات:

بالتوبة النَّصُوح ينتقلُ العبدُ من المعصية إلى الطاعة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الهَدم إلى الإصلاح، ومن الظلم إلى العدل والرحمة والإحسان، التوبة سدٌّ عظيمٌ أمام الفساد والمُفسِدين يعرِضها الإسلام على الكفار وعلى المحاربين والمرتدين وعلى كل المُفسِدين في الأرض مهما بلغَ كفرُهم وفسادُهم وطغيانُهم: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: ٣٨]، وفي المحارِبين والمُفسِدين: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: ٣٤].

بالتوبة الصادقة يتطهَّر المجتمع من المآثِم والجرائم ليقلَّ خطرُها ويُحاصَر أثرُها، بالتوبة يتجسَّد للعبد ذلُّ الحاجة، وذلُّ الطاعة والعبودية، وذلُّ المحبة والانقياد، وذلُّ المعصية والخطيئة، ومن اجتمع له ذلك كلُّه فقد خضَع لله تمام الخضوع، وحقَّق العبوديةَ والاستكانة.

وهل يُسكِنُ تأنيبَ الضمير وأوجاعَ النفوس إلا التوبة والذكر والاستغفار: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ٢٨].

أيها المسلمون:

هلا وقفتُم عند فرح الله بتوبة عبده؟! «للهُ أفرحُ بتوبة عبده من رجلٍ أضلَّ راحِلَته في فلاة وعليه متاعُه وطعامُه وشرابُه، حتى اشتدَّ عليه الحرُّ والعطش، فنام نومةً، ثم رفع رأسَه فإذا راحِلتُه عنده».

ألا يبهَرُ الصالحين هذا الترحابُ الغامِر؟ أتُرى سرورًا يعدِلُ هذه البهجةَ الخالصة؟ توبةٌ وأوبةٌ يفرحُ الله بها، فهي انتصارُ العبد على أسباب الضعف والنفس الأمَّارة بالسوء والشيطان الرجيم، إنه فرحُ الله البرِّ اللطيف المُحسِن الكريم الجواد الرحيم.

الله أكبر - عباد الله -؛ لقد جعل الله التوبةَ وسيلةً لمحبته وسبيلاً لفرحه، ولم يكن هذا الفرحُ من الله في شيءٍ من الطاعات غير التوبة، فرحُ إحسانٍ من العليِّ الأعلى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: ٢٢٢]، ربُّنا - عزَّ شأنه - يحب التوابين؛ لأن التائب المُوفَّق يكون في حالٍ من الوَجَل والإشفاق والانكسار والتذلُّل والتضرُّع والرجاء بأن يقبل الله توبتَه، ويغفِر زلَّته، ويتجاوز عن ذنبه، ويغسِل حوبَته، ويمحو خطيئتَه.

وهذه الأحوال من أفضل أحوال العبد التي يحبُّها الله، فالله يحبُّ من عبده أنه كلما أحدثَ زلَّةً أحدثَ لها توبةً، وهذا هو العبدُ التواب، والله التواب هو الحليم الكريم العفوُّ الغفور الجوادُ الرحيم.

توابون أوابون يشعرون بحب الله ومعيَّته؛ لأنهم لا يشعرون أنهم مُنفرِدون بهمِّهم، ولا وحيدون بمُصابهم؛ بل يأوون إلا ركنٍ شديد، ويلجئون إلى كنَفِ رحيم.

معاشر الصائمين والقائمين:

ووقفةٌ أخرى مع مظاهر هذه المحبة الإلهية والفرح الربَّاني، إنه تبديلُ السيئات حسنات: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: ٧٠]، فأيُّ جودٍ من ربنا أعظمُ من هذا؟ وأيُّ كرمٍ أوسع من هذا؟

نعم - عباد الله -؛ التوبة لا تمحو الذنب فقط؛ بل تُحوِّله حسنات تُضاف إلى رصيد الحسنات، الربُّ يتحبَّبُ إلى عبده وهو الغنيُّ، والعبدُ يُقدِمُ على التقصير وهو الفقير، «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطَعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت».

ومن لُطف الله ورحمته وفرحه بتوبة عبده: أن العبدَ إذا كان له حسنات ثم عمِل سيئاتٍ استغرقَت هذه الحسنات، ثم تابَ بعد ذلك، فإن حسناته الأولى تعود إليه، يقول حكيمٌ بن حزام - رضي الله عنه -: قلتُ: يا رسول الله! أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنَّثُ بها - أي: أتعبَّدُ بها - في الجاهلية؛ من صدقةٍ، وعِتاقٍ، وصلةِ رحِم؛ فهل فيها أجر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ»؛ متفق عليه.

قال الحافظ ابن حجر: "لا مانع أن يُضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثوابَ ما كان صدر منه في الكفر تفضُّلاً وإحسانًا".

معاشر الأحبة من أهل الصيام والقيام:

حين يمُنُّ الله على العبد بالتوبة ويُبدِّلُ الله سيئاته حسنات كيف يكون حالُه وحالُ من حوله وحالُ المجتمع؟

تأمَّلوا في حال عاقِّ والدَيْه حين يمُنُّ الله عليه بالتوبة فيصلُح حالُه، ويعزِمُ على التوبة النَّصوح، فيُقيمُ على أنقاض العقوق صروحَ البرِّ والإحسان، فيبَرَّ والدَيْه ويصِلَهما، ويُغدِق عليهما، ويُحسِن حديثَه إليهما، ويخفِضَ الجناحَ لهما، ويدعُو لهما، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء: ٢٥].

وحين يمُنُّ الله على قاطع الرحِم، فتزول عنه الغِشاوة، فيرى تفريطَه في قرابته، وقطيعتَه لأهله فيفِرّ - بعون الله - إلى التوبة، فلا يقف عند الندم والاعترافِ بالخطأ والاستغفار؛ بل يُسارِع إلى وصلِ رحِمِه، ويُؤسِّس لعهدٍ جديدٍ مع الأقربين في الزيارات والاتصالات والمساعدات وقضاء الحوائج قدر المُستطاع.

وما أجمل حُسن المتاب للمُغتاب؛ فبعد أن كان يتتبَّعُ السلبيات وكشفَ العورات وبثَّ الأخبار المُغرِضة، والشائعات الكاذِبة، والازدراء والانتقاص يتوبُ إلى ربه، ويؤوبُ إلى فضل الله ورحمته، فلا يكتفِي بكفِّ لسانه عن الحرام والممنوع؛ بل ينتقل إلى ذكر المحاسن، ونشر الفضائل، والتماسِ الأعذار، وسدِّ النقائص، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: ١٢].

وما أجمل من ابتُلِي بنشر الرذائل؛ كلمةً، وصوتًا، وصورةً، ذكرًا أو أُنثى، حين يُزيِّنُ الفواحِش، ويُحبُّ أن تشيعَ الفاحِشةُ في الذين آمنوا، في قصصٍ وأفلامٍ ورواياتٍ وتمثيليات وكتاباتٍ ومقالاتٍ ومُنتجات؛ نعم، منَّ الله عليه فتابَ وآمنَ وعملَ عملاً صالحًا، أعمالاً صالحة تدفِنُ الماضي الذين أفنى فيه زهرَة عُمره، فيدعو إلى الخير والفضيلة والالتزام بقِيَم الإسلام؛ في مُؤلَّفاتٍ ومُنتجاتٍ، هذا خيرٌ ممن يقتصر على سلوك مسلك الاعتزال عن ماضيه، وإن كان هذا الاعتزالُ حسنًا وخيرًا ولكن أن يمُنَّ الله عليه فيكتُب ويُؤلِّف ويُبيِّن مواطن الخطأ، ويصدُّ عن مسالك الغواية، ويرسمُ مناهج الحق، فهذا خيرٌ وأولَى وأصلَح.

وما أجمل صاحب المظالم وقد منَّ الله عليه بتوبةٍ نصوحٍ وندمٍ عريض، فيرجعُ إلى ربه، ويردُّ المظالمَ إلى أهلها، ويُعيدُ الحقوقَ إلى أصحابها ماديةً ومعنوية، ماليةً وسياسية وفكريةً وغيرها.

وبعدُ، عبا الله، وبعدُ، معاشر الإخوة:

فهذه هي قوافل التائبين ومراكب الناجين؛ فهل شممتَ ريحًا أطيبَ من أنفاس التوابين؟ وهل رأيتَ أعذبَ من دموع النادمين؟ وهل شاهدتَ أجملَ من لباس المُنكسِرين؟ بل هل سمعتَ نداءً أجمل وألطفَ وأرقَّ من نداء رب العالمين: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: ٥٣]، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: ١١٠].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله برحمته اهتدى المُهتدون، وبعدله ضلَّ الضالون، لا يُسأل عما يفعلُ وهم يُسألون، أحمده - سبحانه - وأشكره على ترادُف آلائه، وقليلٌ من عباده الشاكرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الصاحبة والولد، وسبحان الله وتعالى عما يصفون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه وخليلُه الأمين المأمون، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن هم بهديه مُستمسِكون، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، معاشر الأحبة:

كلما قوِي سلطان محبة الله في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وبضعف المحبة تقوى جاذبيةُ المعصية، وتظهرُ المحبة حين تقترِنُ بالحياء من الله وإجلاله وحُسن مراقبته، والمسلمون في هذه الأيام المباركة أيام شهر رمضان المبارَك؛ بل هم في إقبال هذه العشر الأخيرة أكثر حياءً وأكثر محبةً وأعظمُ رجاءً، كيف وقد اجتمع لكم - يا أهل الحرمين - مواطنين ومُقيمين وزوَّارًا، اجتمع لكم شرفُ الزمان وشرفُ المكان، تعيشون قُدسية المُقدَّسات، ونفحات البركات، مُقبلين على عباداتكم وصلواتكم وأذكاركم ببُشرٍ وابتهاجٍ وأنتم ترون من المُنشآت وتعيشون من الإنجازات ما يُثيرُ اعتزاز كل مسلم، ويُبهِجُ كل مُتعبِّد، ويُهيِّيءُ أجواءً العبادة لكل مُتنسِّك.

أيها الإخوة الأحبة:

هذه الدولة السعودية المباركة أقامت دولةً موحَّدة مُترامية الأطراف، لمَّت شتاتَ الأمة، وأرسَت قواعدَ الحكم على كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في خِضَمِّ صراعاتٍ حادَّة وتياراتٍ مُتصارعة، هذا المؤسس الملكُ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - بعد ملحمة التوحيد، وبعد أن استقرَّ الحكم واطمأنت البلادُ وأهلُها بدأ التعمير والبناء في الدولة.

ومن أظهر مظاهر التعمير وأول المواقع وأولاها: البِقاع الطاهرة؛ الحرمان الشريفان والمشاعر المُقدَّسة، فكانت محلَّ العناية من الملك المُؤسِّس ثم أبنائه الملوك من بعد: سعودٍ وفيصل وخالدٍ وفهد، وأنتم في هذا العهد الزاهر المُتمِّم لعهود والده وإخوانه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، لم تعتزَّ الدولة السعودية مثل اعتزازها بهذه الخدمات الجليلة، ولم تتردَّد لحظةً واحدة في بذلٍ غير مقطوعٍ ولا ممنوع في كل ما يخدِمُ هذه البقاع الطاهرة.

أما حينما يسَّر الله علينا من فضله وفتح لنا من خزائنه فكان من أظهر مظاهر الشكر والتحدُّث بالنعمة أن تكون الأولوية للبقاع الطاهرة والديار المُقدَّسة، اهتمامٌ وعنايةٌ تُناسِبُ مع مكانة المكان وقُدسية المُقدَّسات وتطلُّعات المسلمين وخدمة المُتعبِّدين.

لقد أراد الله - بمنِّه وفضله وكرمه - أن يحظَى ولاة أمر هذه البلاد بشرف هذه الأعمال العظيمة، والجهود المباركة، والإنجازات الضخمة، إن كل ما يُستطاعُ تقديمُه، وكل ما يُمكنُ بذلُه فلن تتردَّد الدولة في الإقدام عليه والمُبادرة إلى تنفيذه في تخطيطٍ ودراسةٍ ودراية، مهما كلَّف من جهدٍ ومالٍ وتخطيطٍ وتنفيذ، فلله الحمد والشكر والفضل والمنَّة.

ولقد أقرَّ الله عليه المسلمين في كل مكان وتحقَّقت همَمُ الملوك فانتصَبَ الحرمان الشريفان والمشاعرُ المُقدَّسة كأكبر مشروعاتٍ نُفِّذَت في العالم مهما كانت ضخامَتُها، إنها مشاريع هي المعالمُ الأبرز على مستوى العالم الإسلامي كله، مُتميِّزةً بكل المعايير، ومُتقدِّمةً بكل المقاييس، وقد ضمَّت وتضمَّنت من التفاصيل الفنية أوفاها، ومن التقنيات المعاصِرة أرقاها، ومن الخامات أجودَها، في أعلى المعايير المهنية، في مُنشآتٍ حضاريةٍ شامِخة تجمعُ بين الأصالةِ والمعاصرة.

وحين يكتمل المفهوم الحضاري ومن أجل توظيف ما أظهره الله في هذا العصر من تِقنياتٍ وإمكانياتٍ ووسائل ومُعدَّاتٍ وآلات؛ فقد كانت العنايةُ بالمرافق؛ من تكييفٍ وإضاءة وسِقاية وصوتيات وساحات وميادين وشوارع وأنفاق وجُسورٍ وقطارات، وأنظمة تحكُّم، واستعدادٍ لحالات الطوارئ، كل ذلك في أعلى المواصفات وأدق مستويات الأداء؛ في صورةٍ حيَّة لتِقنيَّات المعمار الحديث، تُعبِّر عن الجناب القُدسي، والسموِّ الجمالي.

إننا نحسبُ أنها إنجازاتٌ شاهِدة ماثِلة يعرفُ قيمتَها ويقدُر قدرَها كلُّ من يراها، ويبهَرُ ببهائها كلُّ من يُشاهِدُها، نعم؛ المواطن يشهد، والمُقيم يشهد، والزائر يشهد، والطائف والعاكف والبادِي يشهدون، ومُشاهد التلفاز يشهد، والخبير يشهد؛ بل الإنجاز الشامخ قبلهم وبعدهم هو الشاهد والمشهود في شهاداتِ عدلٍ محليةٍ ودولية على هذه الإنجازات البهية الباهرة.

كل ذلك؛ وإن أفضل الأعمال أبقاها، وأحسنَها أخلدُها، وستبقى هذه الإنجازات السعودية في سجلِّ الخالدين - بإذن الله -.

ومن العجب - أيها المسلمون - أن هذه الدولة - وقد وفَّقها الله إلى هذه العناية والرعاية والخدمات والإنجازات - لم يكن هذا هو تميُّزها الوحيد؛ بل إن من فضل الله عليها أنها لم تكن بعيدةً عن أشقائها في جميع مراحل الأزمات؛ السياسية والاقتصادية والإنسانية، فهي راعيةُ التضامُن الإسلامي، وراعيةُ الحوار، ودولةُ المُبادرات، والمُترفِّعة عن الخلافات.

ويأتي خادمُ الحرمين الشريفين الملكُ عبدُ الله بن عبد العزيز آل سعود ليُعلِن بمُبادراته ووقفاته التاريخية المسؤولة، وبمصداقيته المعهودة، وصفائه الجلِيّ، وأخلاقه العربية والإسلامية ليحمِل همَّ أشقائه حكوماتٍ وشعوبًا.

وحينما دخلت بعضُ البلدان الشقيقة فيما دخلت فيه من اضطراباتٍ ومُشكلاتٍ وأزماتٍ أسهمَ إسهاماته المحسوبة، وخطَى خُطواته المُتأنية في منهجٍ عقلاني، وسياساتٍ حكيمة، ومُبادراتٍ مُتأنية، ونهجٍ مُتوازن، وهو النهجُ الأنجَع في منطقةٍ قلِقة وأجواءٍ مُضطربة.

ملكٌ ينظر بنظرٍ شموليٍّ في قضايا الأمة الكُبرى ويترفَّع عن الصغائر فضلاً عن أن يقف عندها، منهجٌ عقلاني وسياسةٌ حكيمة، تحمي الأبرياء، وتأبَى سفكَ الدماء، بعيدًا عن الشعارات والمُساومات، وليس هو الذي يقِفُ مع الحكومات ضدّ شعوبها، ولا مع الشعوب ضد حكوماتها، ولكنه بصدقِه ونقائه وحبه وإخلاصه وحكمته يقف مع المصلحة والإصلاح في عزمٍ وحزمٍ وغيرةٍ وحميَّة.

ليس مُناهِضًا للعادل من المُطالبات، ولا للنافع من التغييرات، ولكنه مُعارضٌ للقتل والخراب والتدمير، إنها السياسات التي تحسِبُ لعواقِب الأمور حِسابَها، وتنظر في المآلات ونهاياتها، مع الحرص الشديد على تجنُّب المزالِق الضيقة والدهاليز المُلتوية، بعيدًا عن الفتن والضغائن.

نداءاتُ مليكنا ومُبادراته ذاتُ مضامين عملية وأساليب واضحة تحمِلُ مشاعر الصدق والمحبة، ومشاعيل الرجاء والأمل.

إنه قائدُ الأمة الذي يقفُ مُتساميًا فوق كل المواقف يصدَعُ بالحق وينحازُ إليه، القائد الملكُ الصالح الذي لا يُساوَم على دينه وعروبته وغيرته على أمته.

بارك الله في الجهود، وسدَّد الخُطى، وهدى للتي هي أقوم، وأصلح الله شأن الأمة كله، وحفِظ عليها أمنها وإيمانها ووحدة ديارها وجمع كلمتها، إنه سميعٌ مُجيبٌ.

ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: ٣١]، فكل ابن آدم خطَّاء، ولكن عفوَ الله أعظم، والزلَلُ كبير، ورحمةُ الله أوسع، فسارِعوا إلى رحمةٍ من ربكم، واستغِلُّوا شريفَ أيامكم، وتعرَّضوا لنفحات ربكم، وأرُوا اللهَ من أنفسكم خيرًا.

ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - عزَّ شأنه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانهم وأعوانهم لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.

اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مسَّهم الضرُّ، وحلَّ بهم الكرب، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكت الدماء، وقُتل الأبرياء، ورُمِّلت النساء، ويُتِّم الأطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين ويا مُنجِي المؤمنين اللهم انتصر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشف كربَهم، وارفع ضُرَّهم.

اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءهم، واجمع على الحق والهدى كلمَتهم، وولِّ عليهم خيارَهم واكفِهم أشرارهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بَطَن.

اللهم وارفع عنا وعنهم الغلا والوبا والربا والزنا والجوع والعُرِيّ والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.

اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين، اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين فإنهم لا يُعجزونك، اللهم أنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.

اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءنا وصيامَنا وقيامَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا يا أرحم الراحمين.

سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

<<  <   >  >>