للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خطبة المسجد الحرام - ٢٣ ذو القعدة ١٤٣٢ - الإسلام دين الأخلاق - الشيخ صالح بن حميد

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله مُنشِئ الأُمم ومُبيدها، وباعِث الرِّمَم ومُعيدها، أحمده - سبحانه - شاكرًا طائعًا، وأستعينُه وأستغفِرُه عابدًا خاضِعًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُوحِّدًا مُخلِصًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله بعثَه ربُّه بدينِ الحقِّ داعيًا وهاديًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا كثيرًا دائمًا مُتوالِيًا.

أما بعد:

فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة: ٢٨٢]، بالعلم يصحُّ العمل، وبالعمل تُنالُ الحكمة، وبالحكمةِ يقومُ الزُّهد، وبالزُّهد تُعرفُ الدنيا، ومن عرفَ الدنيا رغِبَ في الآخرة، ومن رغِبَ في الآخرة نالَ المنزلة، والتوفيقُ خيرُ قائدٍ، ومن رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطه أحد، ومن قنِع بعطاء مولاه لم يدخُله حسَد، ومن فُتِح له بابُ خيرٍ فليُسرِع إليه؛ فإنه لا يدري متى يُغلَقُ دونَه.

واعلموا أن الموتَ يعمُّنا، والقبورَ تضمُّنا، والقيامةُ تجمَعُنا، والله يحكمُ بيننا وهو خيرُ الحاكمين، فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون [المائدة:٤٨].

أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:

يقول الله - عز وجل -: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب [البقرة:١٩٧].

قواعدُ السلوك ومعايير الأخلاق وآداب التعامُل مقياسُ جلِيٌّ من مقاييس الالتزام بدين الإسلام، وعنوانٌ من عناوين الرُّقِيِّ الحضاريِّ، ومَعلَمٌ من معالمِ السموِّ الإنساني، إنها: القواعد والآداب التي تحكُم العلاقات بين الناس من كل فئاتهم وطبقاتهم، قواعدُ وآدابُ تبعَثُ على الشعور بالأمان والمحبَّة وحُسن المعاشَرة وسعادة المُجتمع.

والحُجَّاج في جُموعهم، والمسلمون في تجمُّعاتهم تتجلَّى فيهم هذه المظاهر السلوكية، والتخلُّق بأخلاق دينهم، والالتزام بتعاليم شرعِهم، ومن تحبَّبَ إلى الناس أحَبُّوه، ومن أحسنَ مُعاملَتَهم قبِلُوه.

الدمَاثَة وحُسن الخُلُق هي اللغةُ الإنسانيةُ المُشتركة التي يفهَمُها كلُّ أحد، وينجذِبُ إليها الكريم، ويُحسِنُ الإنصاتَ إليها الحكيم.

الوجهُ الصبوح خيرُ وسيلةٍ لكَسب الناس، وحُسن البُشر يُذهِبُ السَّخِيمة، وذو المُروءةِ الحكيم من يُخاطِبُ الناسَ بأفعاله قبل أن يُخاطِبَهم بأقواله.

أيها المسلمون، معاشر الحَجيج:

وفي ديننا من التوجيهات والتعليمات ما يبني شبكةً واسعةً من العلاقات المَتينة مع الدائرة الأُسريَّة والمُجتمعية، والدائرة الإسلامية الأوسع، ثم الدائرة الإنسانية الأشمَل.

وفي ديننا كذلك: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي.

وفي الحديث: «إنكم لن تسَعُوا الناسَ بأموالكم، وليسَعْهُ منكم بسطُ الوجهِ وحُسن الخُلُق»؛ رواه الترمذي، والحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسنادٍ صحيح.

وفي الحديث عند مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويدخُل الجنة فلتأتِهِ منيَّتُه وهو يُؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه».

والناسُ معادن وطبقات ومنازل، ومُعاملتُهم معاملةً واحدةً أمرٌ في الحياة لا يستقيم؛ فما يُلائِمُ هذا لا يُلائِمُ ذاك، وما يُناسِبُ هذه الفِئَة لا يُناسِبُ تلك، ويحسُن مع هذا ما لا يجمُلُ مع الآخر.

والناس يُخاطَبون بما يعرِفون؛ فالعقولُ مُتفاوِتة، والفُهومُ مُتبايِنة، والطِّباعُ مُتغايِرة، ولله في خلقِهِ شُؤون؛ من والدٍ وولدٍ، وزوجٍ وأخ، ورئيسٍ ومرؤوسٍ، وسريع الفَهم وبطيئه، وحادِّ الطبع وباردِه، وقريبِ الصلةِ وغريبها، في أشخاصٍ وصفاتٍ وأحوال؛ من شدَّةٍ ورخاءٍ، وحُزنٍ وسُرورٍ، والأرواحُ جنودٌ مُجنَّدة.

وقد قالت الحُكماء: "إذا أردتَ اصطيادَ السم فضع في سنَّارتك ما يُلائِمُ من طعامٍ، وقد تُلائِمُ الديدان لا فاخرُ اللحوم".

أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:

وهذا عرضٌ لبعض ما حفَلَت به السيرةُ المُصطفوية والهديُ المُحمَّديُّ والسنةُ النبوية من أنواع المُعاملات والتوجيهات لمُختلَف الطبقات والشحصيات؛ كيف وهو المُصطفى الهادي البشيرُ، واصطفاه ربُّه بقوله - عزَّ شأنُه -: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم [التوبة:١٢٨]، وقال - جل وعلا -: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين [آل عمران:١٥٩].

وأولُ ما يُواجِهُ المُتأمِّلُ في هذه السيرةِ النبوية الكريمة والهدي المُحمَّدي: مُعاملتُه مع أهله، وسلُوكه في بيته - عليه الصلاة والسلام -.

لقد كان حبيبُنا ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم - بشرًا من البشر؛ يفلِي ثوبَه، ويحلِبُ شاتَه، ويخدِمُ نفسَه، وكان في مهنةِ أهله، فإذا حضرَت الصلاةُ خرجَ إلى الصلاة؛ أخرجه البخاري، والترمذي.

وكان يقول - عليه الصلاة والسلام -: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلِي»؛ أخرجه الترمذي، وابن ماجه.

ويظنُّ بعضُ الناس أن الرجُولةَ والشخصيةَ في عُبوسِ الوجه، وتقطيبِ الجبين، وإصدار الأوامر والنواهي، وتجنُّب المُباسَطة في الحديث مع الأهل، ومُبادلَة المسرَّات وحُسن الإصغاء.

وحديثُ أم زرعٍ الطويل كان مُسامرةً بين عائشة - رضي الله عنها - وزوجِها محمد رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - مُؤانسةً ومُباسطَة.

ومن حُسن المعاملة: المُشاوَرة في الشؤون الأُسريَّة وغيرها، فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [البقرة: ٢٣٣]، وشاورَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زوجَهُ أمَّ سلَمَة في شأنٍ كبيرٍ، وهو: شأنُ صُلح الحُديبية، وأخذ بمشُورتها.

وشاوَرَ بريرَة في قصة الإفك - وهو حدثٌ عظيمٌ مُزلزِل -.

بل تأمَّلوا وتفقَّهوا كيف كان تعامُلُه - عليه الصلاة والسلام - مع أخطاء الناس وغيرة النساء؛ فحين كسرَت إحدى زوجاته صحفةَ صاحبتها المملوءة طعامًا، ما كان من النبي الكريم ذي الخُلُق العظيم - عليه أفضل الصلاة وأزكَى التسليم - إلا أن تعاملَ برفقٍ، مُقدِّرًا طبائع النساء قائلاً: «غارَت أمُّكم»، فجمعَ الطعامَ المُتناثِر، وقال: «طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ»؛ أخرجه البخاري، والترمذي.

يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وفيه: عدمُ مُؤاخَذة الغيراء بما يصدُرُ منها؛ لأنها في تلك الحالة يكونُ عقلُها محجوبًا لشدَّة الغضب بسبب الغَيرة".

يا هذا! القوةُ والعنفُ والضربُ والشدَّة يقدِرُ عليها كلُّ أحدٍ، أما الحِلمُ والرِّفقُ والصفحُ والعفوُ والتسامُح فليس إلا لذوي الإرادات القوية والمُروءات العالية والأخلاق الرفيعة، "وما ضربَ نبيُّكم محمد - صلى الله عليه وسلم - امرأةً ولا خادمًا إلا أن يُجاهِدَ في سبيل الله"؛ أخرجه أحمد، وأبو داود.

أما الأطفالُ والصِّبيانُ؛ فحدِّث عن هديِ نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ولا حرَج:

ومن دقيق المُلاحَظة في التعامُل مع الصغار: أنهم لا يُفرِّقون بين أوقات الجِدِّ وأوقات اللعب؛ فالطفلُ يظنُّ أن الوقتَ كلَّه له، وقد قدَّر الإسلامُ هذه المشاعِر؛ فها هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحملُ بنتَ بنته في الصلاة، فإذا ركعَ وضعَها، وإذا قام رفعَها؛ متفق عليه.

والحسنُ أو الحُسين - رضي الله عنهما - يرتحِلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويركبُ على ظهره وهو في الصلاة، فيُطيلُ السجود حتى يقضِيَ الطفلُ نُهمَتَه؛ أخرجه أحمد، والنسائي.

بل وهو يخطبُ على المنبر جاء الحسنُ - رضي الله عنه -، فصعِد المنبَر، فضمَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ومسحَ رأسَه وقال: «ابنِي هذا سيدٌ، ولعلَّ اللهَ أن يُصلِحَ على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين»؛ أخرجه أبو داود.

أيها المسلمون:

والطريقُ الأيسر والأقصرُ والأمتَعُ إذا قُوبِلَ الأطفال والصغار هو مُلاطفتُهم ومُمازحتُهم وحُسن رعايتهم ومنحُهم الحنان والاهتمام، وما كان أحدٌ أرحمَ بالعيال من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.

وزحمةُ الواجبات وكثرةُ المسؤوليات لا يجوزُ أن تشغَلَ عن مثل هذا، فهذا من جُملةِ المسؤوليات والواجبات.

يقول أنسٌ - رضي الله عنه -: "كان إبراهيمُ ابن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مُسترضَعًا في عوالي المدينة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينطلقُ ونحن معه، فيدخلُ البيت ويأخذه ويُقبِّلُه ثم يرجع"؛ رواه مسلم.

مُفردات التعامُل مع الصغار: قبلةٌ حانية، وحِضنٌ دافِئ، ولعبٌ بريء، وهي لغةٌ سهلةٌ يسيرةٌ في تكاليفها، عظيمةٌ في تأثيرها.

مسكينٌ هذا الغليظُ القاسي حين يُصوِّرُه ذلك الرجل الذي رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُ سِبطَه الحسن - رضي الله عنه -، فقال: أوَتُقبِّلون أطفالَكم؟ إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ أحدًا منهم، فكان الجوابُ النبوي: «من لا يرحَمُ لا يُرحَم»، وفي الصورة الأخرى: «أوَأملِك أن نزعَ اللهُ الرحمةَ من قلوبكم».

بل إنه - عليه الصلاة والسلام - إذا سمِعَ بكاءَ الصبيِّ وهو في الصلاة خفَّفَ مُراعاةً لأمِّه أن تفتِتن.

معاشر الأحِبَّة، حُجَّاج بيت الله:

أما التعامُل مع الخَدَم والأُجَراء والعُمَّال فيُجسِّدُه تمام التجسيد مقولةُ أنس - رضي الله عنه - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خدمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سنين، فما قال لي لشيءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَه، ولا لشيءٍ لم أفعله لم لم تفعله".

وتأمَّلوا هذه الحادثة مع أنسٍ نفسه - رضي الله عنه -: خرج أنسٌ في حاجةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأى الصبيانَ يلعبون في السوق فانشغلَ معهم؛ لأنه كان صغيرًا في سنِّهم، فاستبطأَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يبحثُ عنه فوجدَهُ يلعبُ مع الصبيان.

يقول أنس: فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلَّم - قد قبضَ بقفايَ من ورائي، فنظرتُ إليه وهو يضحَك، فقال: «يا أُنيس! أذهَبتَ حيثُ أمرتُك؟». فقلتُ: نعم، أذهبُ يا رسول الله!

هذا هو الدرس؛ إنسانية، وتلطُّف، ورقَّةٌ في النداء: «يا أُنيس» من غير نَهْرٍ، ولا نفضِ يدين، فضلاً عن الصُّراخ والضرب والتعنيف.

وحين شكا رجلٌ خادِمَه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: إنه يُسيءُ ويظلِم، أفأضرِبُه؟ فقال: «تعفُو عنه كلَّ يومٍ سبعين مرَّة»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي.

نعم، أيها المسلمون:

إن من أعظم ما يتجلَّى فيه آدابُ التعامُل وكريمُ الأخلاق: مواقف الناس في مُعاملاتهم وبياعاتهم ومُدايناتهم، «رحِمَ اللهُ عبدًا سمحًا إذا باعَ، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى»؛ أخرجه البخاري.

وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون [البقرة:٢٨٠].

«ومن سرَّه أن يُنجِيَه الله من كربِ يوم القيامة فليُنفِّث عن مُعسِرٍ أو ليضَع عنه»؛ أخرجه مسلم.

معاشر الحَجيج:

أما التعامُل أمام مكر الماكرين، وخيانات الخائنين، وكُفر الكافرين؛ فقد قال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين [المائدة:١٣].

ولو نظرَ المسلمُ إلى المُعاهَدات التي عقدَها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع غير المسلمين، لرأى فيها من صُنوف التسامُح وحُسن الجِدال وضُروب العفو والصفح ما لا ينقضِي منه العجَب:

«من دخلَ دارَ أبي سُفيان فهو آمِن، ومن أغلقَ عليه بابَه فهو آمِن، ومن ألقى السلاحَ فهو آمِن».

وقال لقريشٍ يوم الفتح، وهم من هم في ماضِيهم الأسود، وتاريخهم المُظلِم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتعذيب المُستضعَفين، وإيذاء المؤمنين، لقد قال لهم: «ما تقولون أني فاعلٌ بكم؟». فقالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم، فقال: «أقولُ كما قال أخي يوسف: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين [يوسف:٩٢]، اذهبُوا فأنتمُ الطُّلَقاء».

وحين قيل له: ادعُ على المشركين. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أُبعَث لعَّانًا، وإنما بُعِثت رحمةً»؛ أخرجه مسلم.

وبعد، عباد الله:

فإليكم ميزانًا لا يختلف ومِعيارًا لا يُطفِّف، أحِبُّوا لغيركم ما تُحبُّون لأنفسكم، واكرهوا لغيركم ما تكرهون لأنفسكم، وأحسِنوا كما تُحبُّون أن يُحسَن إليكم، وارضَوا من الناس ما ترضَونَه لأنفسكم، ولا تقولوا ما لا تُحبُّون أن يُقال لكم، ولا تظلِموا كما لا تُحبُّون أن تُظلَموا، وافعلوا الخيرَ مع أهله ومع غير أهله؛ فإن لم يكونوا من أهله فأنتم من أهله.

يا عبد الله:

كم من بلِيَّةٍ مُقبِلةٍ دفعَها معروفٌ لمسلمٍ بذلتَه، أو همٌّ لمهمومٍ فرَّجتَه، أو مُحتاجٌ في ضائقةٍ أعنتَه، ومن قاسَ هجيرَ صنائع المعروف في الدنيا استظلَّ في ظلال النعيم في الجنَّة، وخيرُ الناس أتقاهُم وآمرُهم بالمعروف وأنهاهُم عن المنكر، وأوصلُهم لذي رحِمِه، ومن يُخالِطُ الناسَ ويصبِرُ على أذاهم خيرٌ ممن لم يُخالِطِ الناس ولم يصبِر على أذاهم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم (٣٥) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم [فصلت: ٣٤ - ٣٦].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله جامعِ الناسِ ليومٍ لا ريبَ فيه، يعلمُ ما يُسرُّ العبدُ وما يُخفِيه، أحمده - سبحانه - وأشكره وأستغفِرُه وأستَهديه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ مُوقِنٍ بقلبِه مُعلِنٍ بفِيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه قام بعبادة ربِّه حتى تفطَّرت قدماهُ وصامَ وواصلَ فكان يبيتُ عند ربِّه يُطعِمُه ويسقِيه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا دائمًا طيبًا مُباركًا فيه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومٍ لكل امرئٍ فيه شأنٌ يُعنيه.

أما بعد:

معاشر الأحبة، حُجَّاج بيت الله:

ومن حُسن التعامُل وآدابه: اليقين الجازم بأنه لا أحد يخلو من العيوب.

يقول سعيد بن المُسيّب - رحمه الله -: "ليس من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عيوبٌ".

لكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكَر عيوبُه؛ فمن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه ذهبَ نقصُه لفضله، وكم من الناس تنقُدُهم، فإذا رأيتَ غيرَهم حمِدتَّهم.

وقد قال نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في العلاقات الزوجية: «لا يفرَكُ مؤمنٌ مُؤمِنةً، إن كرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخَر»؛ رواه مسلم.

والناسُ - رحمك الله - يكرهون من لا ينسَى زلاَّتهم، ويُذكِّرهم بأخطائهم، ومُواجهةُ الناس بأخطائهم هي أقصرُ طريقٍ للعداوة، ومن سترَ مسلمًا ستَرَه الله، والمُتَّقون هم الكاظِمون الغيظَ والعافون عن الناس.

وقدِّر غيرَك تفُز بتقديره، وابتسِم للناس يبتسِموا لك، وتبسُّمُك في وجهِ أخيك صدقةٌ، إن استثارةَ العواطف النبيلة من نفوس الناس طريقٌ كريمٌ حكيم لكسبِهم والتأثير فيهم.

وفي التعامُل - حفظك الله - اجتنِب الحديثَ عن نفسك ونسبَ الفضائل لها، وإلقاء التبِعَة على الآخرين، فما تتفاخَرُ به قد يراه الناسُ نقصًا وشذَرًا، وأحسِن الإنصات، والمُقاطَعة في الحديث تجرحُ المشاعِرَ، ومن لم يشكُر الناسَ لم يشكُر الله، ولا تظُنَّنَّ بكلمةٍ خرجَت من أحدٍ سُوءًا وأنت تجِدُ لها في الخير محمَلاً.

وبعد:

فإن الناسَ - وأنت منهم - عواطفُ أولاً، ثم عقولٌ ثانيًا.

فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فمن حسُنَ خُلُقُه بلغَ درجةَ الصائم القائم، والمؤمنُ يألَفُ ولا يُؤلَف، ولا خيرَ فيمن لا يألَفُ ولا يُؤلَف، وخيرُ الناس أنفعُهم للناس.

هذا؛ صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله - وهو الصادقُ في قِيلِه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحة والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه وأعوانه لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.

اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.

اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.

اللهم إن إخواننا في الصومال جِياعٌ فأطعِمهم، وعُراةٌ فاكسُهم، وحُفاةٌ فاحمِلهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحَم ميِّتَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، اللهم وارفَع البأسَ عن البائسين، واكشِف الضرَّ عن المُتضرِّرين يا أرحم الراحمين.

اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ، وأحسِن عاقبَتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.

اللهم من أرادنا وأرادَ ديننا وديارَنا وولاة أمرنا وعلماءَنا وأمنَنا وأمتَنا واجتماعَ كلمتنا سوءٍ اللهم فأشغِله بنفسه، واجعل كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه تدميرًا عليه يا رب العالمين.

اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين، اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين فإنهم لا يُعجزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.

اللهم يسِّر للحُجَّاج حجَّهم، اللهم يسِّر للحُجَّاج حجَّهم، واجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهم وأحسِن مُنقلبَهم، وأعِدهم إلى ديارهم سالمين غانمين مقبولين، بمنِّك وجودِك يا أكرم الأكرمين.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار [البقرة:٢٠١].

سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

<<  <   >  >>